بين الحياة والموت

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ لا بد من الاستعداد للآخرة 2/أنفاس معدودة، وآجال مكتوبة. 3/أحوال الخلق بين الميلاد والموت 4/التحذير من الاغترار بالدنيا 5/حقيقة الحياة وقيمتها 6/هل الموت هو نهاية المطاف؟

اقتباس

النظرة المثلى للحياة والموت أن يتزود العبد من دنياه لآخرته، ويستعد ويزيد في عمل الآخرة، والإقبال على الله، ولا يجعل الدنيا أكبر همه، فقد حذر ربنا سبحانه في القرآن الكريم عباده أن تكون الدنيا أكبر همّ للعبد وشاغله الأعظم، وأن من كان كذلك يُخشى ألا يكون له في الآخرة نصيب...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي يسبح بحمده من في الأرض والسموات، والحمد لله بكل حمدٍ حمد به نفسه، أو علمه أحدًا من المخلوقات، نحمده على ما منح من نعمه السابغات، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترفع قائلها أعلى الدرجات، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأئمة الثقات.

 

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: إن ما توعدون من الآخرة لآت، وإنكم في دار هي محل العِبَر والآفات، وأنتم على سفر، والطريق كثيرة المخافات، فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكروا فيما أراكم من الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات قبل أن ينادي منادي الشتات، قبل أن يفجأكم هاذم اللذات، قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزفرات، قبل أن تتقطع قلوبكم عند فراق الدنيا حسرات، قبل أن يغشاكم من غمّ الموت الغمرات، قبل أن تزعجوا من القصور إلى بطون الفلوات، قبل أن يُحال بينكم وبين ما تشتهون من هذه الحياة، قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا لتعملوا وهيهات.

 

عباد الله: بين الحياة والموت أنفاس معدودة، وآجال مكتوبة، وأعمار محدودة، والعباد يتنقلون في الدنيا بين الحياة والموت، والدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما تزينت فهي إلى زوال، اسمع معي -سمعك الله الخير في الدنيا والآخرة- إلى هذا المثل، يقرب لنا صورة الحياة الدنيا، عن أبي بن كعب أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن مَطْعَم ابن آدم قد ضُرب مثلاً للدنيا، وإن قزَّحه وملَّحه فانظر إلى ما يصير" [صحيح ابن حبان 702، والطبراني 531، وحسنه الألباني].

 

فهما بالغ الإنسان في تطييب طعامه، وفي صنعه ووضع التوابل والمشهيات، فإنه بعد هضمه في بطنه، عائد إلى حال يُكره ويُستقذر، بل إذا مضغه الإنسان وحاول أن يراه لم يستسغه!! فكذلك الدنيا التي يحرص الخلق على عمارتها، راجعة إلى خراب وإدبار، وهكذا الدنيا بين الحياة والموت.

 

عباد الله: إن المؤمن بين الحياة والموت يُولد مرتين، ويحيا حياتين: الحياة الأولى: يوم أن تأتي بك أمك فتقع على الأرض وأنت على الفطرة، والحياة الثانية: يوم أن تحيا بالإسلام، ويوم أن يتوب الله عليك، فإن كثيراً من الناس أحياء وليسوا بأحياء، يأكلون ويشربون ولكنهم ليسوا بأحياء، لأن الحياة أن يسافر قلبك إلى الله، وتعيش مع الله، وتقضي عمرك في عبادة الله (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام:122]، فأين أنت -يا عبد الله- من هذا؟!

 

أيها الإخوة: إن الله -سبحانه- وحده هو القادر على كل شيء، وله القدرة المطلقة التي لا تتقيد بقيد، وهذه حقيقة يطبعها القرآن في قلب المؤمن، فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه، فإنما يركن إلى قادر يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج: 6، 7]. فلا يملك أحد لغيره نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، فاهدأ واطمئن وثق بربك، فالحياة والموت بيده وحده، وهو على كل شيء قدير.

 

أيها الإخوة: إن الحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله وحده يملك الحياة والموت: (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [المؤمنون: 80]، فالبشر كلهم أعجز وأقل من بعث الحياة في حشرة واحدة، وأعجز من سلبها عن حي من الأحياء، فالذي يملك ويهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها، وهو الله وحده -سبحانه وتعالى-، فسبحان الخالق المالك الذي يملك وحده تصريف هذا الكون الهائل، وهذه الأحياء المبثوثة من نبات وحيوان، وطير وإنسان.

 

واعلم -يا عبد الله- أن من رحمة الله بابن آدم أنه أرشده إلى حجمه الطبيعي وعرّفه قدْره؛ حتى لا يطغى ويتجاوز حدّه، فالإنسان الضعيف المخلوق من ماء مهين ليس له أن يتكبر ويدعي لنفسه فضلاً أو دورًا في الحياة أو الموت، قال تعالى: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة: 57- 62].

 

فدور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يُوْدِع الرجل ما يُـمْني رحم المرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، وتأخذ يد القدرة الإلهية في العمل وحدها في هذا الماء المهين، تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، حتى يكون خلقاً آخر، حتى يكون بشراً سوياً له سمع وبصر، وقلب وروح، وعقل وإدراك، ورأس ولسان، وأيد وأقدام، يأكل ويشرب, ويضحك ويبكي, ويقوم ويقعد, وينام ويستيقظ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 12-16].

 

هذه هي البداية، أما النهاية فهي الموت الذي ينتهي إليه كل حي، إنه قدر الله، ومن ثم لا يفلت منه أحد، وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بدَّ أن تتكامل: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة: 60-62].

 

والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة، قدّر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا، فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت: 20].

 

أيها الإخوة: والله -عزَّ وجلَّ- وحده هو الذي يحيي ويميت، فبيده إعطاء الحياة، وبيده استرداد ما أعطى، وكل شيء بأجل مسمى، ولم يجعل الله لأحد من الخلق على غيره سبيلاً بالقتل أو الموت، منّة أو منحة أو اختصاص عن غيره من البشر، إذ كلهم يموتون، وقد تفرد -سبحانه- بإنزال الموت بالعباد كما خلقهم أول مرة، ولذلك وكّل الله -عزَّ وجلَّ- ملك الموت بقبض جميع الأرواح كما قال -سبحانه-: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة: 11].

 

وأعان الله ملك الموت بأعوان من الملائكة يساعدونه في مهمته بإذن ربهم وإعانته، قال -سبحانه-: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال: 50-51]. فعلى الإنسان أن يستعد للموت ويكثر من ذكره، والاستعداد للموت يكون بالتوبة من المعاصي، وإيثار الآخرة، والخروج من المظالم، والإقبال على الله بالطاعات، واجتناب المحرمات.

 

وعلى المسلم أن يتذكر دائماً أن الموت فيه فراق العمل والحرث للآخرة، لا على أنه فراق للأهل والأحباب ولذات الدنيا، فهذه نظرة قاصرة تزيده حسرة وألماً، وإنما النظرة المثلى للحياة والموت أن يتزود العبد من دنياه لآخرته، ويستعد ويزيد في عمل الآخرة، والإقبال على الله، ولا يجعل الدنيا أكبر همه، فقد حذر ربنا سبحانه في القرآن الكريم عباده أن تكون الدنيا أكبر همّ للعبد وشاغله الأعظم، وأن من كان كذلك يُخشى ألا يكون له في الآخرة نصيب، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود:15-16]، وقال -سبحانه-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)[الشورى:20]، وقال -جل وعلا-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)[الإسراء: 18- 22].

 

فما الحياة؟! وما قيمتها؟ وما ذهبها؟! ما هي فضتها؟! ما هي قصورها ومناصبها ووظائفها؟! كلها لا شيء لعب ولهو تفاخر وتكاثر زهوٌ ورياء إعجابٌ وظهور طلاسم ولموع، ولكن الحقائق والثوابت هي الإيمان والعمل الصالح.  ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" [مستدرك الحاكم 7846 وصححه الألباني].

 

فهذه موعظة نبوية ترسم له معالم حياته بين الحياة والموت، بالسعي في مراضي الله -سبحانه-، ويحثه على اغتنام شبابه ففي الشباب قوة وعزيمة؛ فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة, وفي الصحة نشاط وانبساط فإذا مرض الإنسان؛ انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال, وفي الغنى راحة وفراغ؛ فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه والعيال, وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال؛ فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان.

 

عباد الله : اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها واعلموا أن كل آت قريب وأن كل موجود منكم زائل فقيد فابتدروا الأعمال قبل الزوال.

 

أيها الفضلاء: المؤمن في كل حالاته يرضى عن ربه، فلا يتمنى الموت لضر أصابه، فلعله إن كان محسناً لعله أن يزداد إحساناً، وإن كان مسيئاً لعله أن يتوب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَتَـمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ الْـمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِـهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَـمَنِّياً لِلْـمَوْتِ فَلْيَقُل: اللَّـهُـمَّ أحْيِنِي مَا كَانَتِ الْـحَيَاةُ خَيْـراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْـراً لِي" [أخرجه البخاري (6351) ، ومسلم 2680]، فحياة الإنسان خطوات إلى الآخرة، وأنفاس معدودة منصرمة، كل نَفَس منها يقابله آلاف الآلاف من السنين في دار البقاء، والعبد منساق بزمنه إلى دار النعيم أو إلى دار الجحيم، وبقاؤه في الدنيا كساعة من النهار، فما أولى العاقل أن لا يصرف منها نَفَساً، إلا في أحب الأمور إلى الله، فلو صرفه فيما يـحبه وترك الأحب لكان مفرطاً، فكيف إذا صرفه فيما لا ينفعه؟ وكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه؟.

 

وسيُسأل كل إنسان عما قدم وأخر, وعن كل طاعة عملها, وعن كل معصية فعلها, وعن كل فاحشة اقترفها. وسيرجع الناس إلى ربهم يوم القيامة، وسيحاسبهم على كل ما عملوه, وكل ما أسروه وأعلنوه, وكل ما جمعوه وفرقوه, وكل ما حفظوه وضيعوه كما قال -سبحانه-: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) [الغاشية: 25-26].

 

فاتقوا الله -عباد الله- واعتبروا بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب.

 

نسأل الله أن يرزقنا حسن الخاتمة. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه، واعملوا لهول المطلع، واجتهدوا في جمع ما ينفعكم في الرحلة الطويلة، فواعجبًا من اطمئنان مع قلة الزاد وبعد الطريق، نسأل الله العافية.

 

عباد الله: وللناس آجال لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم، أو في ميادين طلب الرزق، أو ميادين الغزو، وعنده الجزاء بعد ذلك، هذا اعتقاد المؤمن. أما الكفار فلفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، لا يرون إلا الأسباب الظاهرة؛ بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة. فعلة القتل أو الموت أو الحياة كلها بيد الله -سبحانه-، والموتى والقتلى إنما يلبون النداء، وهو استيفاء الأجل، ونداء المضجع.

 

ولذلك عاب الله على المشركين اعتقادهم بأن هناك أسبابًا تنجيهم من الموت أو الهلاك، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [آل عمران: 156]، فلا السفر ولا الحرب، ولا غيرهما يعجل بموت الإنسان، بل لكل نفس أجل وعمر، حتى لو احتمى في القصور الشاهقات، قال -سبحانه-: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)  [النساء: 78].

 

أيها المسلمون: وإن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل، فهذه ليست نهاية المطاف، بل هناك حياة أخرى، ونعيم أعلى خير مما فيه أهل الدنيا: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران: 157 – 158].

 

وكل الخلق بعد الموت راجعون إلى الله، محشورون إليه على كل حال، سواء ماتوا على فرشهم، أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إنما يكون في النية والعمل الصالح، أما النهاية فواحدة، موت أو قتل، في الموعد المسمى. وهناك إما مغفرة من الله ورحمة, أو غضب من الله وعذاب. وبهذا اليقين تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله، وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر.

 

والله -جل جلاله- هو القاهر فوق عباده، وهم تحت سيطرته وقهره، فهم ضعاف في قبضة هذا السلطان، لا قوة لهم ولا ناصر، وكل نَفَس من أنفاسهم بقدر. وسَيُـرد الخلق كلهم بعد الموت إلى ربهم ومولاهم الذي أنشأهم وأطلقهم للحياة ما شاء، ثم مردهم إليه عندما يشاء، ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب. فهو وحده يحكم, وهو وحده يحاسب, وهو لا يبطئ في الحكم, ولا يمهل في الجزاء: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام: 62].

 

نسأل الله حسن القدوم عليه، وأن يأخذ بنواصينا إليه، وأن يقربنا منه، ويلطف بنا أجمعين، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.

 

 

 

 

 

المرفقات

الحياة والموت

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات