عناصر الخطبة
1/ سبب صيام يوم عاشوراء 2/ فضل صيام يوم عاشوراء 3/ فضيلة الشكر والأمر به 4/ نماذج من شكر الأنبياء 5/ معنى الشكر وحقيقته 6/ ثمرة الشكر 7/ مظاهر كُفران النِّعم ونتائجه 8/ أسباب حفظ النعماقتباس
لقد قام نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بشُكر الله على نعمةٍ وقعَت لنبيٍّ قبلَه بمئات السنين؛ بل وشرعَ ذلك لأمَّته، وبيَّن لهم ما فيه من الثوابِ العظيمِ؛ ذلك أن الشُّكرَ نصفُ الدين، وأن الله تعالى هو الشاكرُ العليم، وهو الشكورُ الحليم، ويحبُّ الشاكرين، ووعدَ على الشُّكر بالأجر الجَزيل، وقال: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 145].
الخطبة الأولى:
الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمدُ كما خلقتَنا ورزقتَنا، وهديتَنا وعلَّمتَنا، وأنقَذتَنا وفرَّجتَ عنَّا، لك الحمدُ بالإسلام، ولك الحمدُ بالقرآن، ولك الحمدُ بالأهل والمال والمُعافاة، كبَتَّ عدوَّنا، وبسطتَ رزقنَا، وأظهرتَ أمنَنا، وجمعتَ فُرقَتنا، وأحسَنتَ مُعافاتنا، ومن كل ما سألناك ربَّنا أعطيتَنا.
فلك الحمدُ على ذلك حمدًا كثيرًا، لك الحمدُ بكل نعمةٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حديث، أو سرٍّ أو علانية، أو خاصَّةٍ أو عامَّة، أو حيٍّ أو ميتٍ، أو شاهدٍ أو غائبٍ، لك الحمدُ حتى ترضَى، ولك الحمدُ إذا رضيتَ، ولك الحمدُ بعد الرِّضا، لا نُحصِي ثناءً عليك.
اللهم إنا نسألُك شُكرَ نعمتك، وحُسن عبادتك، ونعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، ونعوذُ بك أن نُبدِّل نعمتَك كُفرًا، وأن نكفُرَها بعد أن عرفناها، وأن ننساها ولا نُثنِي عليك بها.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس- بما وصَّى الله به الأُمم الغابِرة، كما وصَّى الأمةَ الحاضِرةَ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131].
من تنبَّه سلِم، ومن غفلَ ندِم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر: 3].
أيها المسلمون: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدِم المدينة، فوجدَ اليهودَ صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟!". قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجَى الله فيه موسى وقومَه، وغرَّق فرعون وقومَه، فصامَه موسى شُكرًا، فنحن نصومُه. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "فنحن أحقُّ وأولَى بمُوسَى منكم"، فصامَه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمرَ بصيامِه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ التاسع". أي: مع العاشر.
وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صيامُ يوم عاشوراء أحتسِبُ على الله أن يُكفِّر السنةَ التي قبلَه". رواه مسلم.
عباد الله: لقد قام نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بشُكر الله على نعمةٍ وقعَت لنبيٍّ قبلَه بمئات السنين؛ بل وشرعَ ذلك لأمَّته، وبيَّن لهم ما فيه من الثوابِ العظيمِ؛ ذلك أن الشُّكرَ نصفُ الدين، وأن الله تعالى هو الشاكرُ العليم، وهو الشكورُ الحليم، ويحبُّ الشاكرين، ووعدَ على الشُّكر بالأجر الجَزيل، وقال: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 145].
أمرَ الله بالشُّكر، ونهى عن ضدِّه، وأثنَى على أهله، ووصفَ به خواصَّ خلقه، ووعدَ أهلَه بأحسن جزائِه، وجعلَه سببًا للمزيد من فضلِه، وحارِسًا وحافِظًا لنعمته، وجعل الله الشُّكرَ غايةَ خلقه وأمرِه، فقال -سبحانه-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].
وجعل العبادةَ هي الشُّكر، فقال: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172].
أثنَى الله به على أوليائِه الحُنفاء، وأنبيائِه الأصفياء، فقال عن نوحٍ: (إنه كان عبدًا شكورا)، وقال عن الخليل -عليه السلام-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل: 120، 121]، وذكرَ عن نبيَّيْهِ داود وسليمان أنهما قالا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) [النمل: 15].
وذكرَ عن سليمان -عليه السلام- أنه قال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19]. فقرَنَ بين الشُّكر والعمل الصالح، ولما تمَّ له ما أراد من إحضار عرش ملكة سبأ، (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40].
وهذا نبيُّ الله يوسف -عليه السلام- لما صارَ عزيزَ مصر وتمَّت عليه النعمةُ بالمُلك، واجتماع أبوَيْه وأهلِه، قال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101].
شكرَ ربَّه، ونسبَ إليه الفضلَ، وسألَ اللهَ صلاحَ العمل وحُسن الخِتام.
أما خاتمُ النبيين وإمامُ الشاكرين محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يُصلِّي من الليل حتى تتفطَّر قدَماه، فتقول له عائشة، فيقول: "أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا؟!". رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: الشُّكرُ هو الثناءُ على المُحسِن بما أولاه من المعروف، ولا يكونُ المسلم شاكرًا لأنعُم الله حتى يشكُر ربَّه بقلبِه ولسانِه وجوارِحِه، فيعتقِدُ في قرارة نفسِه أن ما به من نعمةٍ فمن الله وحدَه، تفضُّلاً منه وإحسانًا، وينطِقُ بذلك لسانُه حمدًا لله تعالى وثناءً، كما قال -عز وجل-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11].
وحقيقةُ شُكر النعمة: الاستعانةُ بها على مرضاة المُنعِم، ومن استعانَ بنعمة الله على معصيَةِ الله فقد كفرَ بالنعمة وتعرَّضَ لعقاب المُنعِم.
إن الشُّكرَ ليس مُجرد حمدٍ باللسان، ولكنَّه مع ذلك عملٌ وإظهارٌ للامتِنان، وقد قال -سبحانه-: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، وقال -عز من قائل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]، وقال -سبحانه-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152].
ولما امتنَّ الله على قريشٍ بالنعمتين التي يسعَى لها كل مخلوقٍ، قال: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3، 4]. أطعمَهم وآمنَهم، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) ليتمَّ الشُّكر وتقرَّ النعمة.
عباد الله: الشُّكرُ سببٌ لرِضا الله عن عبدِه، (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7]، وهو أمانٌ من العذاب، (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء: 147].
قال قتادة -رحمه الله-: "إن الله -جلَّ ثناؤُه- لا يُعذِّب شاكرًا ولا مُؤمنًا".
والشُّكرُ سببٌ للزيادة، قال -عز وجل-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7].
قال الحسنُ البصريُّ: "إن الله ليُمتِّعُ بالنعمةِ ما شاء، فإذا لم يُشكَر عليها قلبَها عذابًا".
ولهذا كانوا يُسمُّون الشُّكرَ: الحافِظَ؛ لأنه يحفظُ النعمَ الموجودة، والجالِب؛ لأنه يجلِبُ النعمَ المفقودة.
ولما كانت هذه هي منزلة الشُّكر كانت وظيفةُ إبليس أن يصُدَّ الناسَ عن الشُّكر، وأن يصرِفَهم عنه، قال: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16، 17].
وما أقلَّ المُتَّصِفين بالشُّكر، قال الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [البقرة: 243].
ولهذا كان من دُعاء الأنبياء: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) [النمل: 19].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعُو بقولِه: "اللهم إني أسألُك شُكرَ نعمتك، ربِّ اجعلني لك شكَّارًا"، وأوصَى مُعاذ بن جبل -رضي الله عنه- وأخذ بيده وقال: "يا مُعاذ: والله إني لأُحبُّك"، ثم قال: "أُوصِيك يا مُعاذ: لا تدعَنَّ في دُبُر كل صلاةٍ تقول: اللهم أعنِّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسن عبادتِك". رواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ.
عباد الله: إن الله تعالى أعطَى وأجزل، وأنعمَ وتفضَّل، (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34].
وإنما تثبُت النعمةُ بشُكر المُنعِم، وقد وعدَ -سبحانه- وأوعدَ، فقال -وهو القادر-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
كُفرانُ النعم وجحودُها، واتخاذُها مطيَّةً للعِصيان والتمرُّد والبَطَر والاستِكبار على أوامر الله ونواهِيه، سببٌ لمحق البركات وسلْب النعم، وتبديلِها بالنِّقم، ونزول البلايا والعقوبات العامَّة، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]. الجُوع والخوفُ، ولقد قال: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) ولم يقُل: (كفَرَت بالله)؛ ذلك أن كُفرانَ النِّعم سببُ الجُوع والخَوف، وسببُ الفتن والاضطِراب في الأمنِ والمعايِش.
وإن من كُفران النِّعم: الإسرافُ والتبذيرُ والطُّغيانُ، والتباهِي بما يجلِبُ سخطَ الله ومقتَه، ويُنزِلُ غضبَه وعقابَه، (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7].
فلا تكونوا من الذين بدَّلُوا نعمةَ الله كُفرًا وأحلُّوا قومَهم دارَ البَوَار، وضربَ الله مثلاً للتبديل، فقال -سبحانه-: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: 15- 17]، إلى أن قال -سبحانه- عنهم: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ: 19].
انظروا لمن حولَكم، داهمَتهم النوازِل، فبُدِّلُوا بالنعمة نِقمة، وبالأمن خوفًا، وبالغِنَى فقرًا وجُوعًا، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال: 53].
كم من أمةٍ كانت آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كل شيء، ويأتيها رِزقُها رغدًا من كل مكان، لم يخفِق فيها قلبٌ من خوفٍ، ولم تتضوَّر فيها نفسٌ من جُوعٍ، فانقلَبَت أحوالُها في طرفَة عينٍ، فإذا بالنعمة تزُول، وبالعافية تتحوَّل، وإذا بالنِّقمة تحِلُّ.
وكم حكَى الزمانُ عن دُولٍ وأُممٍ، وأفرادٍ وجماعاتٍ، أتَت عليهم عقوباتٌ نزَعَت أصلَهم، ومحَت أثرَهم، لم ينفَع معها سلاحٌ، ولم تُغنِ عنها قوَّة.
وكل أحدٍ من البشر له مدفَعٌ ومنه حِيلَة، ولا ملجَأَ من ربِّنا ولا منجَا منه إلا إليه، فهو القويُّ القاهِرُ، والعزيزُ القادِرُ، وهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه.
ولله مع خلقِه أيامٌ وسُنن؛ فأين ثمودٌ وعاد؟! وأين الفراعِنةُ الشِّداد؟! أين من قدُّوا الأرضَ ونحَتُوا الجبال؟! وحازُوا أسباب القوة، واحتَاطُوا للنوائِب، لما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجود أثرًا، وأصبَحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا، (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بسُنَّة سيد المُرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أجزلَ في عطائِه، وأغدقَ في نعمائِه، وعافَى من بلائِه، أسبغَ علينا نِعَمه ظاهرةً وباطِنة، فلله الحمدُ كثيرًا كما يُنعِمُ كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: لحِفظ النِّعم العامَّة والخاصَّة، ومنها الأمنُ في الأوطان، واجتماعُ الكلمة، ودوام العيش الرَّغيد؛ لحِفظِ تلك النِّعم الجليلة أسبابٌ شرعيَّةٌ لا يُغنِي عنها توافُر الأسباب الدنيويَّة؛ بل إن الأسبابَ الشرعيَّةَ هي الأصلُ.
وقد رأيتُم قُوَّةً عُظمَى قبل عِقدَين من الزمان تتفكَّكُ وتنهَار، حتى صارَت دولتُها دُولاً، وسلاحُها سِلعةً بيَد المُبتاعِين، فما أغنَت عنها سعَةُ أراضيها، وكثرةُ جيشها ولا قوةُ عَتَادِها. وقُل مثلَ ذلك حِيالَ أحداث هذه السنين وسُرعة تبدُّل الأحوال.
وفي المُقابِل: هذه جزيرةُ العرب كانت خارِجَ الحضارة والتاريخ، فلما أشرقَت شمسُ الإسلام منها وعليها، أصبَحَت قُطبَ العالم ومركزَه، تُجبَى إليها الكنوزُ والثمراتُ، ثم تأخَّرَت فبعُدَت عن التأثير حِينًا من الدَّهر، حتى أذِن الله بقِيام الدعوة الإصلاحية فيها على منهَاج النبُوَّة قبل ثلاثة قُرُون، فعادَت جزيرةُ العرب مُضيئةً وضيئةً، وأخرجَ الله لها ولأهلِها كُنوزَ الأرض، وأتاها الخيرُ من حيث لا تحتسِب، وأسمعَت العالمَ كلمتَها، وهابَها واتَّقاها من لم يكُن يأبَهُ لها قبل عُقودٍ.
ولم يكُن لها ذلك إلا بتوفيقِ الله تعالى وإرادَته الخيرَ لهذه البلاد، وأن الدولةَ أُسِّسَت على كتابِ الله وسُنَّة رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، وستبقَى ما دامَت باقيةً على ذلك النَّهج، وستدُومُ ما دامَت مُحافِظةً على ذلك الأساس الذي قامَت عليه.
ومن ضرورات البقاء: الوعيُ بهذه الحقيقة، والثَّباتُ على هذا المبدأ، (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة: 211].
وإن المُحاولات المُعادِية من الخارِج وصَداها في الداخل من بعض المُتأثِّرين بها، ممن يُحاوِلُ زحزحَة هذه البلاد عن النَّهْج الذي تسيرُ عليه، هو في حقيقتِه زحزحةٌ لها عن مصدر القوة والتمكين، الذي وهبَه الله لها، وقطعُ مدَد السماء لها من الرِّزق والأمن، والتبديل في الدين يتبَعُه التبديلُ في الحال لا محالَة.
وقد وعظَتنا سُننُ الله تعالى في الأُمم، ووعظَنا قولُ الحق -سبحانه-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
والتبديلُ في الدين الذي تُخشَى عواقِبُه: هو كل تبديلٍ يؤُولُ إلى إفراطٍ أو تفريطٍ؛ فالغُلوُّ، وتكفيرُ المُسلمين، واستِرخاصُ الدماء، ونشرُ الفوضَى هو نقصٌ في الدين، وزعزعةٌ له قبل أن يكون زعزعةً للأمن وتدميرًا للحياة.
والإلحادُ، ونشرُ الفاحِشة، والاستِهانةُ بمحارِم الله، والمُجاهَرة بما يُغضِبُ الربَّ هو هدمٌ للدين، وصدٌّ للناسِ عنه، وكُفرٌ بالنِّعم.
فالإفراطُ والتفريط، والفِسقُ والغُلُو وجهان قبيحَان للفُجور، وليس أحدُهما بأولَى بالمُحارَبَة والمنع من الآخَر، وكِلاهُما كحدَّي مِقص يُطبِقان على السبب الموصول بالسماء، فلا يزالان به حتى يقطَعَانه.
فما بالُ أقوامٍ يُريدون أن يُبدِّلُوا نعمةَ الله كُفرًا، ويُحِلُّوا قومَهم دارَ البوَار، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].
ألم يرَوا أن الله قد أنعمَ بالأمن والاجتماع، والخير والفضيلة، أم أن النفوسَ المريضةَ لا تهدَأُ حتى تجلِبَ الفوضَى والاضطرابَ، والخلافَ والانفِلات، وتنشُر الرذَائِل وأسباب تبديلِ النِّعم.
إن حقًّا على العُقلاء أن يأخُذوا على أيدِي السفهاء؛ فإن الضررَ إذا وقعَ نالَ الجميعَ، ومن واجبِ كل مُسلمٍ أن يُدافِع عن حقِّه في حِفظِ الأمن والفضيلَة.
وما دامَ التناصُح مبذُولاً بين الناس، والاحتِسابُ حاضِرًا فيما بينهم؛ فإن ذلك أمَنَةٌ من العذاب وزوال النِّعم: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].
ألا فاقدُروا لنعم الله قدرًا، ولا تُبدِّلُوا فيُبدِّلُ الله عليكم، وكونوا حِصنًا منيعًا في وجهِ عوادِ الكُفران.
حفِظَ الله بلادَنا وبلادَ المُسلمين.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نقمتِك، وجميعِ سخَطِك.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله الهاشميِّ القُرشيِّ.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدة والمُفسدين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسه، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نَحره، واجعَل دائِرَة السَّوء عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدين في سبيلِك في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصَى من ظلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم الطُف بإخواننا في سوريا، اللهم ارفع عنهم البلاء، وعجِّل لهم بالفَرَج، اللهم ارحم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، وتولَّ أمرَهم.
يا راحِم المُستضعفين، ويا ناصِرَ المظلومين: اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن روعَاتهم، واحفَظ أعراضَهم، وسُدَّ خلَّتَهم، وأطعِم جائِعَهم، واربِط على قلوبِهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم أصلِح أحوالَهم، واجمعهم على الهُدى، واكفِهم شِرَارهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن عاونَهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن عاونَهم، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المُؤمنين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم