عناصر الخطبة
1/ الشكر أمر مستقر في سُلوك المُتعبِّدين 2/ الأنبياء والشكر 3/ معنى الشكر ودلالته 4/ أركان الشكر 5/ وسائل الشكر 6/ نعم خص الله بها أهل الحرمين 7/ فضيلة الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضاناقتباس
خُلُقٌ عظيمٌ، ومقامٌ من مقامات العبادة كريم، أمرَ اللهُ به، ونهى عن ضدِّه، وأثنَى على أهلِه، ووصفَ به خواصَّ خلقِه، وجعلَه غايةَ خلقه وأمرِه. وعدَ أهلَه بأحسن جزائِه، وجعلَه سببًا للمزيد من فضلِه، وحارسًا لنعمه، وحافِظًا لآلائِه. أهلُه هم المُنتفِعون بآياته، اشتقَّ لهم اسمًا من أسمائِه، هم القليلون من عباده، وحسبُكم بهذا كلِّه فضلاً وشرفًا وعلوًّا. إنه "مقامُ الشكر وفضلُ الشاكرين" -يا عباد الله-. يقول -عزَّ شأنه-: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]، فلا يعبُده حقَّ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الولي الحميد، ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يُريد، أحمده -سبحانه- وأشكرُه وعدَ الشاكرين بالمزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ الإخلاص والتوحيد، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ الأنبياء وأشرفُ العبيد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابِه البرَرة الأخيار ذوي القول السديد والنهج الرشيد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الوعيد، وسلَّم التسليمَ الكثيرَ المزيد.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فتقوى الله عليها المُعوَّل، وعليكم بما كان عليه السلفُ الصالحُ والصدرُ الأول، سارِعوا إلى مغفرة ربِّكم ومرضاته، وأجيبُوا داعِي ربِّكم إلى دار كرامتِه وجنَّاته.
لك الحمدُ ربَّنا بالإسلام، ولك الحمدُ بالقرآن، ولك الحمدُ بالأهل والمال والمُعافاة. كبَتَّ عدوَّنا، وبسطْتَ رزقَنا، وأظهرتَ أمنَنا، وجمعتَ فُرقتَنا، وأحسنتَ مُعافاتَنا، ومن كل ما سألناك ربَّنا أعطيتَنا.
فلك الحمدُ على ذلك كثيرًا، كما تُنعِمُ كثيرًا، لك الحمدُ بكل نعمةٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حديثٍ، أو سرٍّ أو علانيةٍ، أو خاصَّةٍ أو عامَّةٍ، أو حيٍّ أو ميِّتٍ، أو شاهدٍ أو غائبٍ.
لك الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضِيت، ولوجهِك الدائِم الباقي الحمدُ. فالحمدُ لله رب العالمين.
معاشر المسلمين: خُلُقٌ عظيمٌ، ومقامٌ من مقامات العبادة كريم، أمرَ اللهُ به، ونهى عن ضدِّه، وأثنَى على أهلِه، ووصفَ به خواصَّ خلقِه، وجعلَه غايةَ خلقه وأمرِه. وعدَ أهلَه بأحسن جزائِه، وجعلَه سببًا للمزيد من فضلِه، وحارسًا لنعمه، وحافِظًا لآلائِه.
أهلُه هم المُنتفِعون بآياته، اشتقَّ لهم اسمًا من أسمائِه، هم القليلون من عباده، وحسبُكم بهذا كلِّه فضلاً وشرفًا وعلوًّا. إنه "مقامُ الشكر وفضلُ الشاكرين" -يا عباد الله-.
يقول -عزَّ شأنه-: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]، فلا يعبُده حقَّ عبادته إلا الشاكرون.
ويقول -عزَّ شأنه-: (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152]، ويقول -جل وعلا-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، ويقول -عزَّ شأنه-: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13].
عباد الله: الشكرُ أمرٌ مستقرٌّ في سُلوك المُتعبِّدين، ونهجٌ راسِخٌ في نفوس الصالحين، تمتلِئُ به قلوبُهم، وتلهَجُ به ألسِنتُهم، ويظهرُ على جوارِحهم.
وأولُ أنبياء الله نوحٌ -عليه السلام-، وصفَه ربُّه بقوله: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء: 3]، والخليلُ إبراهيم صاحب الملَّة الحنيفية قال فيه ربُّه: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل: 121]، ويقول سليمان -عليه السلام- وهو ينظرُ فيما خصَّه به ربُّه من نعمه وسخَّر له من مخلوقاتِه: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19]، ويقول: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40].
ولقد حرِصَ أنبياءُ الله -عليهم السلام- على تذكير أقوامِهم بهذا المقام العظيم من مقامات العبودية؛ فها هو هودٌ -عليه السلام- يقول لقومه: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأعراف: 69].
ويقول صالحٌ -عليه السلام- وهو يُعدِّدُ على قومِه ما منحَه ربُّهم من مظاهر النِّعَم والقوة: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف: 74].
أما نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي قد غفرَ الله له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، فيقومُ لربِّه من الليل حتى تتفطَّر قدماه، ويقول: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟!".
معاشر الإخوة: الشكرُ اعترافٌ من العبد بمنَّة الله عليه، وإقرارٌ بنعمِه عليه من خيرَي الدنيا والآخرة في النفس، وفي الأهل والمال والأعمال، وفي شأن العبد كلِّه.
الشكرُ دليلٌ على أن العبدَ راضٍ عن ربِّه؛ فالشكرُ حياةُ القلب وحيَّويَّتُه، والشكرُ قيدُ النعم الموجودة، وصيدُ النعم المفقودة.
الشكرُ دليلٌ على صفاء النفس، وطهارة القلب، وسلامة الصدر، وكمال العقل؛ بل إن الله -جل وعلا- خلقَ الناسَ من أجل أن يشكُروه، يقول -جل وعلا-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].
والشكرُ أولُ وصيَّةٍ وصَّى بها الإنسان: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].
وأخبرَ -عزَّ شأنه- أن رِضاه في شُكره، فقال: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7].
كما جعلَه سببًا من أسباب الأمن من عذاب الله، يقول -عزَّ شأنه-: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147].
بل لقد خصَّ الله الشاكرين بمنَّته عليهم من بين سائر عباده، فقال -جل وعلا-: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام: 53].
أيها الإخوة: وللشكرِ أركانٌ ثلاثة: الاعترافُ بالنعم باطنًا مع محبَّة المُنعِم.
والتحدُّثُ بها ظاهرًا مع الثناء على الله.
وصرفُها في طاعة الله ومرضاته واجتناب معاصِيه.
ورؤوسُ النعم ثلاثة: أولُها وأولاها: نعمة الإسلام التي لا تتمُّ نعمةٌ على الحقيقة إلا بها.
ونعمةُ العافية التي لا تستقيمُ الحياةُ إلا بها.
ونعمةُ الرِّضا التي لا يَطيبُ العيشُ إلا بها.
يقول الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: "الخيرُ الذي لا شرَّ فيه: العافية مع الشكر؛ فكم من شاكرٍ وهو في بلاء، وكم من مُنعَمٍ عليه وهو غيرُ شاكِر. فإذا سألتُم الله -عز وجل- فاسألُوه الشكرَ مع العافية".
وشكرُ الله -أيها الصائمون القائمون- واجبٌ في جميع الأحوال: في الصحة والسَّقَم، والشباب والهرَم، والفقر والغِنى، والفراغ والشّغل، والسرَّاء والضرَّاء، واليقَظَة والمنام، والسفَر والإقامة، وفي الخَلوة والاختلاط، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم.
يقول أبو الدرداء: "من لم يعرِف نعمَ الله -عز وجل- عليه إلا في مطعمه ومشربِه فقد قلَّ علمُه". لأن نعم الله دائمة، وآلاءَه مُتتابِعة، (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34]، وقال -عزَّ شأنه-: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20].
واعلموا -وفقكم الله- أن وسائل الشكر لا تُحصَى، وميادينَه لا تُحصَر، اشكُروا ربَّكم على ما أظهرَ من جميل، وعلى ما ستَرَ من قبيح.
قال رجلٌ لأبي تميمة: كيف أصبَحتَ؟! قال: "أصبحتُ بين نعمتين لا أدري أيّهما أفضل: ذنوبٌ سترَها الله -عز وجل- فلا يستطيعُ أحدٌ أن يُعيِّرَني بها، ومودَّةٌ قذَفَها الله في قلوبِ العباد لم يبلُغها عملي".
ويكونُ الشكرُ بالصلاة؛ فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يُصلِّي من الليل حتى تتفطَّر قدماه، ويقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!".
ويكونُ بالصيام؛ فقد صامَ مُوسَى -عليه السلام- يوم عاشوراء شُكرًا لله؛ إذ نجَّاه وقومَه من فرعون وقومِه، ثم صامَه نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وآله وسلم- وأمرَ بصيامِه، وقال لليهود: "نحن أحقُّ بمُوسَى منكم".
كما يكونُ الشكرُ بسَجدة شكرٍ يسجُدها المؤمن إذا جاءَه خيرٌ من ربِّه، أو حدثَت له نعمةٌ من مولاه، وقد سجدَ نبيُّكم محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- حين أخبرَه جبريل -عليه السلام- أن الله يقول: "من صلَّى عليك صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".
وسجدَ أبو بكر -رضي الله عنه- لما بلغَه مقتلُ مُسيلِمة الكذَّاب. وسجدَ عليٌّ -رضي الله عنه- لما بلغَه مقتلُ الخارجيِّ ابن الثديَّة. وسجدَ كعبُ بن مالك لما تابَ الله عليه.
يقول عبد الرحمن السُّلميُّ: "الصلاةُ شكرٌ، والصيامُ شكرُ، وكلُّ خير يعمله لله -عز وجل- الشكرُ، وأفضلُ الشكر الحمدُ".
وتَعدادُ النِّعم من الشكر، والتحدُّث بالنِّعم من الشكر، ومن أثنَى فقد شكَر، والقناعةُ شكرٌ؛ فكن قانِعًا تكُن أشكرَ الناس، والمعروفُ رِقٌّ، والمُكافأةُ عِتقٌ. ومن قصُرت يدُه عن المُكافأة فليُكثِر من الشكر والثناء، ومن لا يشكُر القليل لا يشكُر الكثير.
ومن الشكرِ: أن لا يزالَ لسانُك رطبًا من ذكر الله، ومن قال إذا أصبحَ وإذا أمسَى: "اللهم ما أصبحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ. فقد أدَّى شكرَ يومِه".
وبعد -رحمكم الله-:
فإن من فضل الله ورحمته ولُطفه: أنه -جلَّ في عُلاه- يشكرُ لعباده، فهو الغفورُ الشكور؛ فالذي سقَى الكلبَ شكرَ الله له فغفَرَ له؛ فكيف بمن يُحسِنُ للمسلمين، ويتفقَّدُ المُحتاجين، ويتصدَّقُ على المُعوِزين، ويرحَمُ المُستضعَفين.
والذي أخَّر غُصن الشوك عن الطريق شكَر الله له فغفَرَ له؛ فكيف بمن يسعى في تيسير أمور الناس وتفريج همومهم وتنفيس كروبهم؟!
ومن لُطفه -عزَّ شأنه- أن جعلَ شُكرَ الناس من شُكر الله: "لا يشكرُ الله من لا يشكُر الناس".
ومن لُطفه كذلك: أن جعلَ من شكرَ فإنما يشكرُ لنفسه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) [يس: 33- 36].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أحصَى كل شيءٍ وعلِمَه، وأتقنَ ما صنَع وأحكمَه، أحمده -سبحانه- على ما وهبَ من العلم وفهَّمَه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ من عرفَ الحقَّ والتزمَه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صدعَ بالحق وأسمعَه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأنصار ممن عزَّره ووقَّرَه وكرَّمه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: أحسِنوا جوارَ نعم الله؛ فإنها قلَّ ما نفَرَت عن أهل بيتٍ فكادَت أن ترجِع إليهم.
وإن من شُكر الله -عز وجل- والاعتراف بفضلِه ونعمته: ما منَّ به على الحرمين الشريفين وأهلِهما من الأمن والأمان، والخير والرَّغَد، وحُسن الرعاية والخدمة، وتقديم كل ما يُيسِّر العبادة من صلاةٍ وطوافٍ وسعيٍ وزيارةٍ، وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرُّكَّع السجُود، للعاكِف والبادِ.
في خدماتٍ منقطعةِ النظير، وبذلٍ لا يقِفُ عند حدٍّ، وتوسِعاتٍ وإصلاحاتٍ تتماشَى مع متطلَّبات الوقت وازدياد الحُجَّاج والعُمَّار والزوَّار، وحُسن توظيفٍ لمُستجدَّات العصر وتقنيَّاته.
ونظرًا لأهمية هذه الأعمال والمشروعات ومكانتها وسعَتها والحاجة إليها والاحتياطات فيها؛ فإن ذلك يتطلَّب -في بعض الأحيان- اتخاذَ قرارات تقتضِيها المصلحة، ولاسيَّما مصلحة قاصِدي الحرمين الشريفين في التيسير عليهم، والاطمئنان على سلامتهم وحُسن تقديم الخدمة لهم.
ومن جُملة القرارات: الحاجةُ إلى تخفيف وترتيب وتنظيم أعداد الحُجَّاج والمُعتمِرين، والتوعية بالدعوة إلى تقليل المجِيء إلى الحرم الشريف لمدَّة مُؤقَّتة، وهي فترةُ اكتمال هذه المشروعات العظيمة من أجل سلامة قاصِدي المسجد الحرام، ومن أجل إنجاز المشروع وإنهائِه في الوقت المُحدَّد، وبالصورة المُثلَى.
وإن الأمل كبيرٌ في إدراك ذلك وتفهُّمه، والتعاون من الجميع لمصلحة الجميع إنجازًا وسلامةً وأمنًا.
بارك الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وأجزل المثوبةَ لوُلاة أمرنا على حُسن رعايتهم، وجليل خدامتهم، وأدامَ علينا أمنَنا وأمانَنا، وحفِظنا من كل مكروه.
ومن الشكر -يا عباد الله-: نعمةُ التوفيق للطاعة وحُسن العبادة، ونعمةُ بُلوغ هذا الشهر الكريم والتوفيق لصيامه وقيامه، وأيُّ حرمان ونُكران أعظم ممن أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفَر له؟! ومن حُرِم خيرَ هذا الشهر فقد حُرِم. اشكُروا الله حقَّ شُكره وأنتم على أبواب عشره الأخيرة.
تأسَّوا بنبيِّكم محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كان أجودَ بالخير من الرِّيح المُرسَلة، وكان أجودَ ما يكون في هذه الأيام يُوقِظُ أهلَه، ويُحيِي ليلَه، ويشُدُّ المِئزَرَ.
للآخرة أسواقٌ يربَح فيها أقوام ويخسر آخرون، وللطاعة مواسِم وأوقات يفوز فيها عامِلون ويُقصِّرُ مخذولون.
فأرُوا الله -رحمكم الله- من أنفسكم خيرًا، حاسِب نفسَك -يا عبد الله-، وانظر في صحائِف أعمالك: برٌّ ونفقة، وإحسانٌ وصدقة، ومواساة وإغاثات، وصلاة وصيام، وقراءة وقيام، وذكرٌ ودعاء.
أيام هي أفضلُ أيام هذا الشهر، يتدارَكُ فيها العبدُ ما فاتَه، ويستدرِكُ تقصيرَه؛ فالخيرُ في هذه العشر، وفيها ليلةُ القدر ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر من أدركَها فقد فازَ بعظيم الثواب والأجر.
اجتهادٌ يُقوِّي الإيمان، ويُزكِّي النفوس، ويُقرِّبُ من الله -جل وعلا-.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام، وصالح الأعمال والطاعات.
قابِلوا إحسانَ ربِّكم بالإحسان، واحفَظوا النِّعَم بالطاعة والعِرفان؛ ففضلُ الله عظيم، وإنعامُه جسيم، وخيرُه عميم، وكل شكرٍ وإن قلَّ ثمنٌ لكل نوالٍ وإن جلَّ. ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقعٌ أوشكَ أن لا يشكُر الكثير.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال -عزَّ من قائلٍ عليم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم