عناصر الخطبة
1/ قيمة الوقت وأهميته في القرآن والسنة 2/صور من محافظة السلف على أوقاتهم 3/التحذير من التسويف والكسل 4/تأثر الإنسان ببيئته 5/علامة الحرص على الوقت 6/وقفات مع سورةاهداف الخطبة
1/بيان أهمية الوقت في حياة المسلم 2/ الدعوة إلى استغلال الأوقات بالأعمال الصالحة 3/التحذير من ضياع الأوقات 4/ بيان خسران الناس في أوقاتهماقتباس
إن الفرصة أمامك اليوم مفتوحة -أيها المسلم ويا أيها الشاب ويا طالب العلم-، ولكنها غدًا مقفلة، فالشباب يذهب وينتهي بالكهولة ثم الشيخوخة ثم الهرم، هذا إذا لم تُتخطَّف قبل ذلك، (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37]. فاغتنموا أوقاتكم فيما ينفع، فالعمر أيام وساعات، وما مضى منها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ..
أما بعد:
أيها المسلمون: فإنّ الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، وهو أسهل شيء يضيع عليه، يقول الإمام الحسن البصري ر-حمه الله- تعالى: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك".
أيها الإخوة: عرَض القرآن الكريم والسنة المطهّرة قيمة الزمن وأهميته وأوجه الانتفاع به وأثر ذلك، وأنه من عظيم نعم الله التي أنعم بها سبحانه؛ ولهذا أقسم الله بأجزاء منه في مطالع سورٍ عديدة, فيقسم بالفجر في قوله: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالْ عَشْرٍ) [الفجر:1، 2]، ويقسِم باللّيل والنهار في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) [الليل:1، 2]، ويقسم بالضحى في قوله: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضحى:1، 2]. وقَسَمُهُ سبحانه بأجزاء الزمن تلكم كان لفتًا للأنظار نحوَها لعظيم دلالتها عليه، ولجليل ما اشتملت عليه من منافع وآثار. ولفت الأنظار نحو أجزاء الزمن يثمر ويفرز معرفةً ويقينًا؛ بأن الله سبحانه الذي شاء خَلقَ الزمان وخَلقَ الفاعلين وأفعالهم وجعلها قسمين خيرًا وشرًا يأبي بحكمته أن يسوَّى بينهم، وأن لا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وأن يجعل النوعين رابحين أو خاسرين، بل الإنسان من حيث هو إنسان (إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر:2]، إلا من رحمه الله فهداه ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه وأمر غيره به.
عباد الله: مما جاء في السنة عن أهمية الزمن والوقت حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-الذي رواه الطبراني في المعجم الكبير والبزار في مسنده، وهو صحيح بشواهده، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟". لن تزول قدما العبد في ذلك الموقف حتى يحاسب عن مدّة أجله فيم صرفه بعامَّة؟ وعمَّا فعل بزمانه وقت شبابه بخاصة؟ وهنا تخصيصٌ بعد تعميم للأهمية والتأكيد، وإلا فإنّ مرحلة الشباب وعُمر الشباب هي مرحلة داخلة ضِمنًا في العمر الذي يسأل عنه العبد، لكن خُصَّ بالذكر لأن الإنسان في مرحلة شبابه يكون لديه أكثر العطاء وأمضاه وآكده وأثمره من طرفَي العمر، حيث ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة.
كما أنّ الإنسان يسأل عن علمه ماذا عمل به؟ هل وظَّفه في مرضاة الله –تعالى-، في الدعوة إليه وإرشاد الناس وتعليمهم دين الله وتوحيدَه، أو وظّفه فقط للحصول على لقمة العيش والتكسب به وصرف الأنظار إليه؟.
هاتان الخصلتان -أيها الإخوة- من تلكم الخصال الأربع التي لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عنها، هاتان الخصلتان موجودة عند كل أحد، بالإضافة إلى بقية الخصال التي يشارككم فيها غيركم، فهل أنتم واعون لذلك ومدركون له وعاملون لأجله؟!
إن الفرصة أمامك اليوم مفتوحة -أيها المسلم ويا أيها الشاب ويا طالب العلم-، ولكنها غدًا مقفلة، فالشباب يذهب وينتهي بالكهولة ثم الشيخوخة ثم الهرم، هذا إذا لم تُتخطَّف قبل ذلك، (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37]. فاغتنموا أوقاتكم فيما ينفع، فالعمر أيام وساعات، وما مضى منها لا يعود.
ذكر الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في ترجمة أبي حاتم الرازي المتوفى سنة 277هـ، أن أبا حاتم قال: قال لي أبو زرعة: "ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك"، فقلت له: "إن عبد الرحمن ابني لحريص"، فقال: ومن أشبه أباه فما ظلم". قال الزَّمَّام وهو أحمد بن علي أحد رجال إسناد الخبر: "فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالاته لأبيه"، فقال: "ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء -أي: في طريقه إلى الخلاء- وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه". فكانت ثمرة تلك المحافظة النادرة على الزمن والحرص على طلب العلم نِتاجًا علميًا كبيرًا، منه كتاب الجرح والتعديل في تسعة مجلدات، وكتاب التفسير في عدة مجلدات، وكتاب المسند في خمس وعشرين ألف صفحة.
ويقول ابن عقيل المتوفى سنة 513هـ صاحب كتاب الفنون ذي الثمانمائة مجلد متحدثًا عن نفسه: "إني لا يحلّ لي أن أُضيّع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة, وبصري عن مطالعه, أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا ابن الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين"، ويقول: "وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سَفَّ الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها". فليت الناس وطلبة العلم خاصة يفقهون مثل هذا الكلام، فكم نمضي ونضيع من الأوقات ونحن جالسون على مائدة الأكل.
وقال القاضي إبراهيم بن الجراح الكوفي تلميذ القاضي الإمام أبي يوسف -رحمهم الله تعالى-، يقول: "مرض أبو يوسف فأتيته أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم، ما تقول في مسألة؟ قلت: في مثل هذه الحالة؟! قال: ولا بأس بذلك، ندرس لعله ينجو به ناجٍ". ثم مضى في سؤاله وعرض مسألته العلمية الفقهية.
أيها المسلمون: يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "الوقت منقضٍ بذاته منصرمٌ بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرّمت أوقاته وعظم فواته واشتدّت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع، وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع، وطلب تناول الفائت؟! وكيف يُردُّ الأمس في اليوم الجديد؟! وأنىَّ لهم التناوش من مكان بعيد؟!".
فيـا حسراتٍ مـا إلى ردِّ مثلهـا *** سبيلٌ ولو ردّت لهان التحسّرُ
هي الشهوات اللاء كانت تَحوّلت *** إلَى حسرات حين عزّ التصبُّرُ
فلـو أنهـا رُدَّت بصبـر وقـوة *** تحوّلن لذّاتٍ وذو اللب يبصرُ
ثم اعملوا -عباد الله- أن التسويف عجز وكسل، وما أكثر الذين يأخذون من التسويف شعارًا لهم، يمكنونه من قلوبهم حتى تقطعت آمال وانقطعت آجال.
إن من يريد أن ينهض في غَدِهِ لا بدّ أن يعمل ليومه كأحسن ما يكون العمل نقاءً وانتقاءً ومضاءً, ثم من الذي يضمن غده؟! وإن كان له غد أيأمنُ معوقات نوازله؟! يقول أبو حامد الغزالي -رحمه الله تعالى-: اعلم أن من له أخوان غائبان وينتظر قدوم أحدهما في غدٍ والآخر بعد سنة, فلا يستعدّ للذي يقدم بعد سنة، وإنما يستعدّ للذي ينتظر قدومه غدًا، فالاستعداد نتيجة قرب الانتظار، فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة اشتغل بالمدَّة ونسي ما وراء المدَّة، ثم يصبح كل يوم وهو منتظر للسنة بكمالها، ولا يحسب اليوم الذي مضى منها، وذلك يمنعه من المبادرة إلى العمل؛ لأنه يرى لنفسه متَّسعًا دائمًا فيؤخر العمل، ولهذا قال-صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال؛ فشر غائب ينتظر، أو الساعة؛ فالساعة أدهى وأمرّ" رواه الترمذي في سننه، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". وكل هذه المعاني في الأحاديث السابقة.
أيها الإخوة: احذروا من التسويف، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: "إيّاك والتسويف، فإنه أكبرُ جنود إبليس".
أيها المسلمون: يخيَّل لبعض الناس أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من المكدرات والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغ منه في الماضي أيام الشباب، ولكن الواقع المشاهد على العكس من هذا، كلما كبرت سِنُّك كبرت مسؤولياتك وزادت علاقاتك وضاقت أوقاتك ونقصت طاقتك، فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة فيه أقلّ، والنشاط أدنى، والواجبات والشواغل أكثر وأشدّ.
أترجـو أن تكون وأنـت شيـخ *** كما قد كنتَ أيام الشبـاب
لقـد كذَبَتك نفسك ليـس ثوبٌ *** دَريسٌ كالجديد من الثيـاب
وما شأن هذا الذي يرى التفرّغ من الشواغل في مستقبل الأيام آتٍ؛ إلا كشأن ذلك الرجل الذي قال للإمام ابن سيرين: "إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء وأطير بغير جناح، فما تفسير هذه الرؤيا؟! فقال له: أنت رجل كثير الأماني والأحلام".
واعلموا -عباد الله- أنَّ المرء مفطور على التأثّر والتأثير، فهو ابن بيئته، وهذا ما ألمحت إليه السنة المطهرة فيما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة" أي: أن طبعك يسرق من جلسائك وأنت لا تدري. ومن المعلوم المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظنّ بالنفوس البشرية، وقد قيل: سمِّيَ الإنسان إنسانًا لأنه يأنس بما يراه خيرًا أو شرًا. قال ابن مسعود-رضي الله عنه-: "اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب الرجل من هو مثله".
أيها المسلمون: إن العقول إذا اكتملت اكتمل اغتنام الزمان، وتمّ إدراك شرفه، وإن من عرف قيمة الزمان لا يكون إلا صاحب قصدٍ واعتدال في أموره كلها، فهو يدري أن التوسع في المطاعم سبب النوم، وأن الشّبَع يعمي القلبَ ويُهزل البدن ويضعفه، فتراه لا يتناول منها إلا حاجته التي تقيم صلبه دون إفراط أو تفريط، ودون تنوع واشتراط يؤدّي إلى أن يكونَ ذلك أكبر مسعاه وغاية مناه ومنتهى أمله. والحريص على الزمن أيضًا لا يعرف فضولاً في زيارة الآخرين، ولا تافهًا من القول ممتدًا، فهو حريص على زمن غيره كحرصه على زمن نفسه، فتراه في زيارته لا يتعدّى مقصدها، وتسمعه في قوله فلا يتجاوَز النافع الخيِّر المحتاج له. فانظر حالك دائمًا أيها المؤمن، وراقب نفسك، وإياك أن تستقلّ خيرًا أو شرًا. لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى.
وكما أن العبد يجب عليه الحذر من تراكم الصغائر؛ فإنه كذلك ينبغي له عدم التهاون بالأعمال الصالحة ولو كانت يسيرة وقليلة، فلا بدّ من العزيمة الماضية والهمة العالية, ومتابعة العمل ودوام العطاء ورصفُ المسألة بجوار المسألة, وتقييد الخاطرة تلو الخاطرة ووضع النظير مع النظير وهكذا، مع محاسبة للنفس على دقائق العمر وثوانيه، متوَّجًا ذلك كله بصدق النية وصدق التوكل على الله سبحانه.
اليومَ شـيءٌ وغـدًا مثلهُ *** مِنْ نُخب العلم التي تُلتَقَط
يُحصِّل الْمرءُ بهـا حِكْمةً *** وإنما السيل اجتماعُ النقط
وفي الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرُ بيان وأصدق كلام، يقول-صلى الله عليه وسلم-: "عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دُووِم عليه وإن قلّ" رواه البخاري. وتحرّي وتلمُّس الأوقات الفاضِلة هو من الحكمة، ومن يؤتَى الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
والمولى -سبحانه وتعالى- اختصَّ بعض الأزمنة بخواصّ لم يختص بها غيرها، ففضلها على سائرها، عن كعب الأحبار قال: "إن الله تبارك وتعالى اختار ساعات الليل والنهار فجعل منهنّ الصلوات المكتوبة، واختار الأيام فجعل منها الجمعة، واختار منها الشهور فجعل منها رمضان، واختار الليالي فجعل منها ليلة القدر، واختار البقاع فجعل منها المساجد".
فتعرضوا -عباد الله- لنفحات ربّكم جل وعلا، فإنّ له في دهرنا نفحات، والموفّق من تعرّض لها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون: فيقول الله تعالى في محكم التنزيل: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر].
أقسم الله –سبحانه- بالعصر الذي هو الليل والنهار ومحلُّ أفعال العباد وأعمالهم؛ أنّ كل إنسان خاسر وفاقد لأرباح كثيرة, وكلمة (العصر) مصدر عَصَرتُ، وإذا عُصِرَ الشيء خرج منه عَصير، وكأنّ الإنسان ليس فقط مطالبًا باغتنام الليل والنهار على التساهل والتراخي، بل مطالب بعَصرها والانتفاع بكلّ ما ينتج من العصر، وهو استثمار كلّ دقيقة فيها، وإلا فإنه سيخسره، ومع أنّ الخسارة تتفاوت فأعظمها خسارة الكافر، حيث يخسر خسارةً مطلقة بفَقده الجنة واستحقاقه الخلود في النار، إلا أنّ الجميع أيضًا يخسَرون أشياءً؛ المؤمن والكافر، وكلّما كان العصر أقوى استخرجت عصيرًا أكثر، وكلما قصرت وسوّفت وأجّلت وفرّطت فاتك من العصير بقدره؛ لأنّ الخسارة قد تكون في بعض الوجوه دون بعض، لكن الجميع خاسرون، باستثناء من استثنى الله تعالى في هذه السورة العظيمة، وهم من اتّصفوا بأربع صفات:
أولها: الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون عِلم، فهو فرع عنه لا يتمّ إلا به.
ثانيها: العمل الصالح، وهذا شامل لأعمال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلّقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة. وقول الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة:7، 8] هو داخل في هذا المعنى؛ فكل خير تعمله ربح، وكل شر تأتيه أو خير تقصر فيه فهو مسجل عليك خسارة، فأكثِر إن شئت أو أقلل، واعمل ما شئت فإنك مجزىٌ به.
وثالث صفات الذين ينجون من الخسار: التواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك ويحثه عليه ويرغبه فيه، والله عز وجل يريد من الأمة المسلمة أن تكون واعية، قائمة على حراسة الحق والخير، يشعر كل فرد من أفرادها أن عليه عملا، وله دور تجاه المجتمع، فلا يكتفي أن يعمل هو فقط، بل مطالب أيضًا أن يوصِي غيره بذلك، وهذا يستدعي صبرًا في مودة وغيرةً وإشفاقًا على المسلمين أن ينالهم شرٌ أو يفوتهم خير.
والصفة الرابعة من صفات من استثني من الوقوع في الخسارة: هم المتواصون بالصبر بكلّ أنواعه؛ لأن النهوض بالحق عسير، والمعوقات عنه كثيرة، منها هوى النفس ومنطق المصلحة وأعراف الناس وتقاليدهم وطغيانُ الظالم وجورُ الجائرين، فالتواصي تذكير وتشجيعٌ وإشعارٌ بالقربى ووحدة الهدف والقيام بحق الأخوة. وطبيعة هذا الدين كذلك لا يقوم إلا في حراسة يشترك فيها الجميع، كل بما يستطيع؛ بيده أو لسانه أو قلمه أو جاهه أو ماله، فإن عدِم تلك الأشياء كلها فبدعائه، حيث لا يستطيع أحدٌ أن يقف بينه وبين الدعاء، والدعاء انعكاسٌ لما يكمن في القلب إذا عجزت الحواس الخارجيّة والوسائل المذكورة.
أيها المسلمون: إن هذه السورةَ جليلةُ القدر عظيمة المعنى، ولهذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم". وروى الطبراني عن عبد الله بن حصن قال: "كان الرجلان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا التقيا لم يفترّقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلّم أحدهما على الآخر"، يعني: إيذانًا بالافتراق.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك بنبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وبقية الصحابة أجمعين، وخصَّ منهم أزواجه أمهات المؤمنين, وآله الطيبين الطاهرين، والعشرة المبشرين
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم