عناصر الخطبة
1/ تأملات في القسم في بداية السورة 2/ القرآن يوجهنا إلى مشاهد الكون 3/ التفكر في آيات الشمس والقمر والليل والنهار 4/ وقفة مع ترتيب القسم في السورةاهداف الخطبة
1/الدعوة إلى تدبر كلام الله 2/ تأمل معاني الآيات الأولى من سورة الشمس 3/ الدعوة إلى التأمل والتفكر في عجائب هذا الكون 4/غرس عظمة الله في النفوس 5/بيان شيء من بلاغة القرآن وإعجازهاقتباس
هذه السورةُ القصيرةُ ذاتُ القافية الواحدة، تتضمن عدة لمساتٍ وجدانيةٍ تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ بها السورة والتي تظهر كأنها إطارٌ للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة. حقيقة النفس الإنسانية، واستعداداتُها الفطرية، ودورُ الإنسان في شأن نفسه، وتبعته في مصيرها.. هذه الحقيقة التي يربطها سياقٌ بحقائق الكون ومشاهده...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
عباد الله: يردد كثيرٌ منّا القرآن مراتٍ خاصةً قصار السور، ولكنَّ القليل من يتدبرُ القرآن ويتنبهُ لهذه المعجزة الخالدة التي حيرَّتْ كفار قريش، بل سلبت عقولهم (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) [النساء: 82] (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24]، وسنقفُ اليوم مع سورةٍ قصيرةٍ في مبناها عظيمةٍ في معناها، لعلَّنا نكون ممن يتدبر القرآن، ألا وهي سورة الشمس, فيقول ربنا جل شأنه: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 1 - 10]
هذه السورةُ القصيرةُ ذاتُ القافية الواحدة، تتضمن عدة لمساتٍ وجدانيةٍ تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ بها السورة والتي تظهر كأنها إطارٌ للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة. حقيقة النفس الإنسانية، واستعداداتُها الفطرية، ودورُ الإنسان في شأن نفسه، وتبعته في مصيرها.. هذه الحقيقة التي يربطها سياقٌ بحقائق الكون ومشاهده الثابتة.
كذلك تتضمن قصةَ ثمود، وتكذيبها بإنذار رسولها، وعقرِها للناقة، ومصرِعها بعد ذلك وزوالها. وهي نموذجٌ من الخيبة التي تصيب من لا يزكي نفسه، فيدعُها للفجور، ولا يلزمها تقواها: كما جاء في المقطع الأول في السورة: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9، 10].
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائقِ والمشاهدِ الكونية، كما يقسم بالنفس وتسويتها وإلهامها. ومن شأن هذا القَسَم أن يخلع على هذه الخلائق قيمةً كبرى؛ وأن يوجَّهَ إليها القلوب تتأملها، وتتدبر ماذا لها من قيمة وماذا بها من دلالة؟، حتى استحقت أن يُقسِمَ بها الجليلُ العظيم.
ومشاهدُ الكون وظواهره إطلاقاً بينها وبين القلب الإنساني لغة سرية! متعارّفٌ عليها في صميم الفطرة وأغوار المشاعر. وبينها وبين الروح الإنساني تجاوبٌ ومناجاةٌ بغير نبرة ولا صوت، وهي تنطق للقلب، وتوحي للروح، وتنبض بالحياة المأنوسة للكيان الإنساني الحي، حيثما التقى بها وهو مقبل عليها، متطلِّعٌ عندها إلى الأنس والمناجاة والتجاوب والإيحاء.
ومن ثم يكثر القرآن من توجيه القلب إلى مشاهد الكون بشتى الأساليب في شتى المواضع. تارةً بالتوجيهات المباشرة، وتارةً باللمسات الجانبية كهذا القسم بتلك الخلائق والمشاهد، ووضعها إطاراً لما يليها من الحقائق. وفي هذا الجزء بالذات لاحظنا كثرة هذه التوجيهات واللمسات كثرةً ظاهرة. فلا تكاد سورةٌ واحدةٌ تخلو من إيقاظ القلب لينطلقَ إلى هذا الكون، يطلب عنده التجاوب والإيحاء. ويتلقى عنه بلغة السر المتبادل ما ينطق به من دلائل وما يبثه من مناجاة!
وهنا نجد القسم الموحِي بالشمس وضحاها.. بالشمس عامةً وحين تضحى وترتفع عن الأفق بصفة خاصة. وهي أشهى ما تكون في هذه الفترة وأحلى. ففي الشتاء يكون وقت الدفء المستحب الناعش. وفي الصيف يكون وقت الإشراق الرائق قبل وقت الظهيرة وقَيْظِها. فالشمس في الضحى في أشهى أوقاتها وأصفاها. وقد ورد أن المقصود بالضحى هو النهارُ كلُه.
وبالقمر إذا تلاها.. إذا تلا الشمس بنوره اللطيف الشفيف الرائق الصافي.. وبين القمر والقلب البشري ودٌّ قديم موغِلٌ في السرائر والأعماق، غائرٌ في شِعاب الضمير، يترقرقُ ويستيقظُ كلما التقى به القلب في أية حال.
وللقمر همساتٌ وإيحاءاتٌ للقلب، وسَبَحَاتٌ وتسبيحاتٌ للخالق، يكاد يسمعها القلبُ الشاعرُ في نور القمر المنساب.. وإن القلب ليشعرَ أحياناً أنه يَسْبَحُ في فيض النور الغامر في الليلة القمراء، ويغسل أدرانه ويرتوي، ويعانق هذا النور الحبيب ويستروح فيه روح الله. قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: "في الآية إشارةٌ إلى أن نور القمر مستفادٌ من نور الشمس، أي من توجه أشعة الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر، وليس نيّراً بذاته، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن".
ثم يقسم تعالى بالنهار إذا جلاها.. والضمير في "جلاها".. الظاهر أن يعود إلى الشمس المذكورة في السياق.. ولكن الإيحاء القرآني يشي بأنه ضمير هذه البسيطة. وللأسلوب القرآني إيحاءاتٌ جانبية ٌ كهذه مضمرة في السياق لأنها معهودة في الحس البشري، يستدعيها التعبير استدعاءً خفياً. فالنهار يجلِّي البسيطةَ ويكشفها. وللنهار في حياة الإنسان آثاره التي يعلمها. وقد ينسى الإنسان بطول التكرار جمال النهار وأثره. فهذه اللمسة السريعة في مثل هذا السياق توقظه وتبعثه للتأمل في هذه الظاهرة الكبرى.
ويحتمل أن يعود المعنى على الشمس ويحتمل أن يعود على الأرض والظلمة، فيكون ربنا تبارك وتعالى قد أقسم بالنهار على أكمل حالاته .
ومناسبة استحضار السماء عَقِبَ ذكر الشمس والقمر، واستحضار الأرض عَقِبَ ذكر النهار والليل، لأن الشمس والقمر في السماء وأثرهما في الأرض.
وابتدئ القسم بالشمس وأضوائها الثلاثة الأصلية والمنعكسة لأن الشمس أعظم النيرِّات التي يصل نورٌ شديدٌ منها للأرض، ولما في حالها وحال أضوائها من الإِيماء إلى أنها مثل لظهور الإِيمان بعد الكفر وبث التقوى بعد الفجور, فإن الكفر والمعاصي تُمثَّل بالظلمة والإِيمانَ والطاعاتِ تُمثَّل بالضياء قال تعالى: (ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه) [المائدة: 16].
وأعقب القسَمُ بالنهار بالقسم بالليل لأن الليل مقابل وقتَ النهار فهو وقت الإِظلام. قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله مبيناً سبب الابتداء بالشمس: "ابتدئ بالشمس لمناسبة المقام إيماء للتنويه بالإِسلام لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكاً، وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق، واتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإِسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك، ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك وذلك عكس ما في سورة الليل لما يأتي".
(والليل إذا يَغْشاها) فبَعْدَ أَنْ أَقْسَمَ تَعَالَى فِي الآيَاتِ الثَّلاَثِ السَّابِقَاتِ بِالضُّوْءِ تَعْظِيماً لأَمْرِهِ، أَقْسَمَ هُنَا بِاللَّيْلِ إِذْ يَغْشَى الشَّمْسَ، وَيُغَطِّي ضَوْءَهَا.وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى الأَرْضَ، وَيَلْفُّهَا بِظَلاَمِهِ.
وقال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: "فتعاقُبُ الظلمة والضياء، والشمس والقمر، على هذا العالم، بانتظام وإتقان، وقيام مصالح العباد، أكبر دليل على أن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه المعبود وحده، الذي كل معبود سواه فباطل".
(والسماء وَمَا بناها) أيْ ومَنْ بنَاها وإيثارُ مَا على مَنْ لإرادةِ الوصفيةِ تفخيماً كأنَّه قيلَ: والقادرِ العظيمِ الشأنِ الذي بناهَا، فهو تعالى أقسم بذاته العلية المقدسة الكريمة، وكذا الكلامُ في قولِه تعالَى: (والأرض وَمَا طحاها) أي ومن بسطَها من كلِّ جانبٍ، ومهدها للسكنى لينتفع الناس بها وبما على ظهرها من نبات وحيوان وجماد، فسبحان من عمل ذلك وأتقنه على أحسن وجه وأكمل صنعه.
وقال بعض المفسرين: "النكتةُ فى الترتيب أن يتبين وجود صانع العالم وكمال قدرته ويظفر العقل بادراك جلال الله وعظمة شأنه حسبما أمكن, فانه تعالى لما أقسم بالشمس التي هي أعظم المحسوسات شرفاً ونفعا،و كونها متبوعَةٌ للقمر ومتجلِّيةٌ عند ارتفاع النهار ومختفية متغطية بالليل, ثم اقسم بالسماء التي فيها مسير الشمس وهي أعظم منها, فقد نبه على عظمة شأن هذه الآيات، وأن حركتها الدقيقة العظيمة محتاجةٌ إلى صانع مدبر كامل القدرة بالغ الحكمة, فتوصل العقل بمعرفة أحوالها وأوصافها إلى كبرياء صانعمها, فكان الترتيب المذكور كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى ارتفاع عالم الربوبية وكمال كبريائه الصمدية" تفسير حقي
الخطبة الثانية
الحمد لله...
فيا أيها الناس: قال العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "في تلك الآيات العشر يقسم الله تعالى سبع مرات بسبع آيات كونية، هي الشمس، والقمر، والليل، والنهار، والسماء، والأرض، والنفس البشرية، مع حالة لكل مقسم به، [كل هذا القَسَمْ على شيءٍ واحدٍ]، وهو فلاحُ من زكى تلك النفس, وخيبةُ من دساها، ومع كل آية جاء القسم بها توجيهاً إلى أثرها العظيم المشاهد الملموس، الدال على القدرة الباهرة".
ولنا وقفه قادمة لتفسير مع ما تبقى من هذه السورة العظيمة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم