العفة فوائدها وأسبابها

عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ فضائل العفة ومكانة أهلها 2/ الحث على مكارم الأخلاق 3/ فوائد العفة عن محارم الله 4/ الوسائل المعينة على العفة 5/ نصائح في التربية الأخلاقية 6/ مساوئ الاختلاط 7/ عبر وعظات في عفة يوسف عليه السلام 8/ سمات عفة المسلم

اقتباس

العفة خُلق كريم، وصفة جميلة، خُلق المتقين، وصفة الشباب المحافظين، تنبت في روضة الإيمان، وتسقى بماء الحياء والطهر والاستقامة، هذه العفة حقيقتها البعد عما لا يحل وما لا يجمل، والبعد عن الفواحش والمنكرات، وقَصْر الإنسان نفسه على ما أباح الله له ..

 

 

 

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين،

أمَّا بعد:

فيا أيُّها الناسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.

عباد الله: العفة خُلق كريم، وصفة جميلة، خُلق المتقين، وصفة الشباب المحافظين، تنبت في روضة الإيمان، وتُسقى بماء الحياء والطهر والاستقامة، هذه العفة حقيقتها البعد عما لا يحل وما لا يجمل، والبعد عن الفواحش والمنكرات، وقَصْر الإنسان نفسه على ما أباح الله له.

وقد أمر الله العاجزين عن الزواج بالعفة، ووعدهم إذا هم فعلوا ذلك أن يعينهم ويغنيهم وييسر أمورهم، قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور: 33]، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يعين من يريد الزواج فالحديث: «ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ» وذكر منهم «الشاب يتزوج الْعَفَافَ»، فمن قصد الخير وأراده وعف عن محارم الله يسر الله أمره وفتح له من أبواب الرزق من فضله ما لا يخطر في باله.

والعفة كانت من الأخلاق والمبادئ التي يدعو إليها محمد صلى الله عليه وسلم، يسأل هرقل الروم أبا سفيان قبل أن يسلم يقول له: بأي شيء يأمركم محمد، قال له: يقول لنا اعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا، ودعوا ما كان يعبد أسلافكم، ويأمرنا بالصلاةِ والزكاةِ والصدقِ والعفافِ والصلةِ.. إذًا فالعفة مبدأ دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم وربى عليه أتباعه.

أيها المسلم: وللعفة عن محارم الله فوائد كثيرة ذكرها الله في كتابه، وبينها محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله جلَّ وعلا مبينًا ومعددًا صفات المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 5- 7]، وقال في المؤمنات: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) [النساء: 34]، وقد وعدهم على هذا الخلق الكريم خير ما يقصده العبد ويريده وهو جنات النَّعيم قال تعالى: (أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) [المعارج: 35]، وقال: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 10- 11]، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «أهلُ الجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلطانٍ مُتصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحيمٌ رَقِيقُ القَلْبِ على كُلِّ ذي قربى ومُسْلِم، ورجل عَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذو عِيالٍ».

ومن فوائدها أنها سبب لإجابة الدعاء والخلوص من المضايق والمصائب أخبر صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الغار ودعواتهم وكيف نجاهم الله من ذلك المصيبة فذكر أحدهم قائلاً: «اللهم إنه كانت لي ابنة عم كنت أحبها أعظم أشد ما يحب الرجال النساء، فراودتها عن نفسها فأبت، حتى ألمت بها سنة جوع فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، فلما تمكنت بها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت العشرين ومائة دينار لها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه ففرج شيء من الصخرة».

اسمع -أخي المسلم- كيف حال خوف الله بين هذا الرجل وبين الوقوع في المعصية بعد التمكن والقدرة عليها، لكن جاء ما هو أعظم من ذلك وهو مخافة الله (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم: 14]، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46].

ومن فوائد العفة أن الله جلَّ وعلا ذكر في فضلها سورةً كاملة عن يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم سورة كاملة فيها تفاصيل ما مر وجرى، سيد الموقف العفة والتعفف عن محارم الله.

ومن فوائد ذلك أن الله جلَّ وعلا حمى أعراض الإعفاء، ورتب على هاتك الأعراض أعظم وعيد فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور: 23 - 24]، ورتب الحد، ورد الشهادة، وحكم بالفسق على قابض المسلم بغير حق: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ*إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 4- 5].

ومن فوائد العفة عن محارم الله: أن هذا العفيف يجعله الله يوم القيامة أحد السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظله إلا ظله، فلما ذكر السبعة قال في أحدهم: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّه" دعته امرأة انظر دعته طلب وليس الطالب ذات منصب ومكان رفيعة وجمال؛ ولكن ما المانع؟ إني أخاف الله؛ لأن الله حرم عليَّ ذلك ومنعني أن أصل إلى الحرام إلا بالطريق المشروع.

أخي المسلم: لهذه العفة أسباب جعلها الله وسيلةً للحفاظ على الطاعة، والبعد عن المعاصي، فمنها التربية الإيمانية، بأن يربى النشء على الخير والعفة وعلى مراقبة الله في أمره ونهيه، يغرس في النفوس تعظيم الله، وأن الله مطلع على العباد وأعمالهم قليلها وكثيرها، سرها وعلانيتها، ليكون المؤمن على حذر وخوف من الله، يذكَّر نفسه قول الله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7]، (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) [آل عمران: 5]، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19]، فإذا استقر ذلك في القلب دعاه إلى البعد عما حرم الله عليه من سائر المحرمات كلها.

ومن التربية الأخلاقية الصبر على حرارة الشهوات وتذكر العبد العقوبات الدنيوية والأخروية فلعل في ذلك زاجرًا ومانعًا له من مقاربة المعاصي.

ومن الأسباب: المبادرة بالزواج لمن كان متأهلاً وقادرًا، فالزواج عفة للفرج وغض للبصر يقول صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ منكم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، فالزواج مع التمكن القدرة عليه مطلوب من المسلم لينشأ على خير وعفة وصلاح واستقامة.

ومن الأسباب غض البصر، فغض البصر يعين على حفظ الفرج، لأن البصر أصول القلب يوصل إليه فيتحرك القلب فيتحرك الجوارح يقول الله جلَّ وعلا: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 32- 33].

ومن الأسباب أيضًا: الحجاب الذي ترتديه المرأة المسلمة فإن حجابها يمنع الفساق والأرذل من تتبعها والنظر إليها، فحجابها سياج منيع يحول بين أرباب الشهوات المغرية من التسلط على المرأة المسلمة: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب: 59]، (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53].

ومن الأسباب أيضًا: صحبة ذو الخير والصلاح، وذو العفة وسمو الأخلاقِ الكريمة، فإن في صحبتهم - بتوفيق من الله - عون لك على الخير وحياءً يؤدي ذلك إلى الحياء المطلوب، وصحبة من لا خير فيهم ممن يتساهلون بالأعراض ويستخفون بالجرائم ما تزال صحبتهم حتى يؤثروا من صحبهم بالشر والبلاء.

ومن الأسباب: البعد عن مواضع الشبهات، وأماكن الفساد والترفع عن هذا بكل وسيلة، فعسى الله أن يمن بالثبات على الحق والاستقامة عليه، ولكن يعرض لهذه الأمور أمور أخرى هي خادشة في العفة والسلامة، فأولاً وقبل كل شيء الحب والغرام المبنيٌ على غير هُدى، المحبة بين المؤمنين مطلوبة يحب المؤمن المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، والمؤمن ولي المؤمن: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71]؛ لكن الحب الغرامٍ المبنيٌ على الفساد والشر مما يترتب عليه النفوس الطبية، فإن هذا الغرام الذي قاد الشباب والشابات من خلال وسائل التقنية من مقاطع الفيديو واليوتيوب وغير ذلك من هذه الصور الخليعة الماجنة وتبادل الصور من بعد ربما أحدث تصدع من الأخلاق والقيم والفضائل، النظر للشاشات التي تنقل الأفلام الخليعة والمسلسلات الهابطة الداعية إلى الرذيلة وسوء الأخلاق كلها تخدش في الكرامة، فيجب على المسلم البعد عنها.

كما أن الاختلاط بين الجنسين بين الرجال والنساء مصيبة عظمى، وطامة كبرى، والبلية كل البلية اختلاط الجنسين في أماكن العمل والبيع والشراء وغير ذلك، هذا الاختلاط الذي ينزع جلباب الحياء، ويحطم الحواجز الإيمانية، ويقضي على القيم والفضائل، ويزيل الحياء من القلوب، هذا الاختلاط له أضرار ومساؤه ومهما غرر له ومهما ابتدع عنه فهو مصيبة وبليلة لا بد تنخر في المجتمع المسلم حتى تقيض أخلاقه وفضائله، فالاختلاط بين الجنسين من أعظم الوسائل والذراع لنشر الفواحش والمنكرات. نسأل الله أن يهدي الجميع للخير، وأن يعصم الجميع بالإيمان وتقوى الله.

ومن الأسباب أيضًا: حصول التبرج والسفور من النساء، فالمرأة المسلمة متى التزمت بالحجاب الشرعي، وابتعدت عن السفور والتبرج كان عونًا له على الخير وإبعادًا عن الشر؛ لكن إذا خرجت إلى الأسواق متبرجة تكشف وجهها أمام البائعين وتخاطبهم بأقوال معسولة، وتبادل الأحاديث الطويلة بلا حاجة، والتسكع في الطرقات وفي الأسواق بلا سبب ولا داعي كل هذه وسائل شر ينبغي للمسلمين الترفع عنها والبعد عنها.

أخي المسلم: إن الله جلَّ وعلا ساق لنا قصة يوسف عليه السلام في سورة كاملة عظيمة يتلوها المسلمون إلى يوم القيامة، هذه الآيات قال الله في أخرها: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111]، نبي الله الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابتُلي وامتُحن؛ ولكن صبر وصابر، أغلقت دونها الأبواب وهيأت له أسباب الفاحشة، شاب فَتِيّ أعطي شطر الحسن، رقيق عند تلك المرأة التي اشتره سيدها أسيرها زوجها رقيق عندها، شاب فتي أعطي شطر الحسن، أغلقت الأبواب دونه وضيق عليه لأجل مقاربة الفاحشة؛ ولكن إيمانه الذي في قلبه إيمانه الصادق وإرادة الخير به ترفع عن هذه الرذائل، وصبر على تلك المحن وقاومها بالالتجاء إلى الله، والتضرع بين يدي الله حتى خرج منها نقيًا سالمًا منها وذلك فضل الله: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24]، فإخلاصه لله وصدق تعامله مع الله، وقوة التوحيد في قلبه، حال بينه وبين معاصي الله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) [يوسف: 24] الرؤية القلبية الإيمانية الصادقة التي قد حالت بين المعصية فصبر قليلاً وتلذذ كثيرا، عليه وعلى نبينا وسائر أنبياء الله أفضل الصلاة وأتم التسليم.

إن فيها عبر وعظات فأولا: ليعلم المسلم أنه لا قدرة له على التغلب على نزاعات الهوى والشهوات إلا بعون من الله قال جلَّ وعلا: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) [النور: 21]، وقال: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 83].

ثانيًا: لا يخدع المسلم نفسه، ولا يزكي نفسه، ولا يقول أنا قادر وإن خالطت النسوة وجلست معهن، أنا قادر على نفسي، قلنا: لا، ابتعد حق البعد عن الحرام، ولهذا يوسف عليه السلام لما ضيق عليه وهدد بالسجن (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ*فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ) الآية [يوسف: 33- 34].

أيها المسلم: إذًا فلا بد من اللجوء إلى الله وعدم الانخداع بالنفس والبعد عن أهل السوء، فالنسوة أعنّ امرأة العزيز على ما يراد من الباطل؛ ولكن قابلهم إيمان قوي أثبت في القلوب من الجبال الراسية وتغلب على تلك النزعات والشهوات ونال الخير العظيم قال الله عنه أنه قال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 102]، أولئك الأخيار الأطهار، أولئك الصلاح الفضلاء الذين قال الله فيهم: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90]، أسأل الله العلي العظيم أن يحفظنا بالإسلام، وأن يثبتنا على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.

أما بعدُ: فيا أيُّها الناس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.

عباد الله: هناك نوع من العفة عفة المسلم، عفة يده، عفة نفسه سمو أخلاقه، أن لا يذل نفسه لأحد من الخلق؛ بل يكون في نفسه عزة وكرامة اكتسبها من عزة إيمانه: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون: 8]، فعزته وكرامته تمنعه أن يمد يديه سائلاً طامعًا فيما عند الناس وإنما يسأل ربه يقول الله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»، فعفة نفسك تمنعك أن تمد للخلق، وأن تكون عزيز النفس باحثًا في مكسب الرزق في كل من الأمكنة المشروعة حتى تكون عزيزًا قويًّا؛ لأن توحيدك لله وإخلاصك لله يجعلك تتجه إلى الله وحده: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].

ونبينا صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه على هذه الخلق الكريم، قال حكيم بن حزام أتيته أساله فأعطاني ثم فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِر، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، والْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»، قال حكيم: فقالت يا رسول الله والله لا أخذ من أحد شيئًا، فكان الصديق يقول يدعوه ويعطي حق من الفيء فيقول: لا، ويعطيه عمر ويقول: لا، قال عمر: أشهدكم أني عرضت أن أعطي حكيم بن حزام ما له من الفيء فيأبى أن يقبله، فصار حكيم من أثرياء المسلمين وتجار المسلمين وفتح الله له من الخير الكثير ما الله به عليم.

ونبينا صلى الله عليه وسلم جاءه رجلين يسألانه وكان صلى الله عليه وسلم معروف بالحياء وعفة اللسان صلى الله عليه وسلم فلما أتيا يسألانه قلب فيهم النظر صعد بصره ونزله فقال لهما: «إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلاَ حَظَّ فِيهَا لِغَنِىٍّ وَلاَ لِقَوِىٍّ مُكْتَسِبٍ»، وقال: «لاَ تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بالعبد حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»، وقال: «إن الرجل يسأل مما عندي فأعطيه فإنما هي جمرة يأخذها فليستقل أو ليستكثر»، رباهم على عزة النفوس، وكرة النفوس وعلاوة الهمم - فصلوات الله وسلامه عليه - وصدق الله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128] فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.

واعلموا رحمكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

وصَلُّوا رحمكم الله على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، الأئمة المهدين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.

اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، وجعل اللَّهمَّ هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العلمين، اللَّهمَّ أمنا في أوطاننا، اللَّهمَّ أمنا في أوطاننا، اللَّهمَّ أصلح وولاة أمرنا، اللَّهمَّ أصلح ولاة أمر المسلمين عامة، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير، اللَّهمَّ سدده في أقواله وأعماله، اللَّهمَّ وفقه لكل خير، اللَّهمَّ ألبسه ثوب الصحة والسلامة والعافية، وجعله بركة على نفسه وعلى مجتمع المسلمين جميعا إنك على كل شيء قدير، اللَّهمَّ وفق ولي عهده نايف بنَ عبدِ العزيزِ لكل خير، وسدده في أقواله وأعماله وأعنه على مسئوليته، ودله على ما تحب وترضى إنك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
 

 

 

 

 

المرفقات

فوائدها وأسبابها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات