اقتباس
وها هي أيام العشر قد حلّت؛ فعلى الخطباء والدعاة أن يستجيشوا الهمم، ويطلقوا العزائم من أعِنَّتِها، لتستمر على الطاعة والبذل ولا تكسل؛ فالكسل في هذه الأيام هو قمة البوار والخسران؛ فعليهم تذكير الناس بفضائل العشر الأواخر، وما في ليلة القدر من جوائز للعابدين القانتين، لئلا يملوا بعدما مرت عشرون يومًا من الطاعة والاجتهاد، حتى لا يضيع فضلها سدى، ولا يتبخر إحسان عشرين يومًا بإساءة عشرة أيام ..
إذا كان أول رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة؛ فإن آخره عتق من النار.
إن اجتهاد العباد في أول شهر رمضان، بل واستعدادهم وتهيؤهم للعبادة قبل ولوجهم في ساعاته وأيامه، لهو مما يبشر بتنَزُّل رحمات الله -جل جلاله- على عباده، تلك الرحمة التي يزجيها الله الرحمن الرحيم لهم؛ لما يرى منهم من حرص على الطاعة، واجتهاد في أدائها وإقامتها على وجهها الأكمل.. فقيامهم بين يديه إلى أن تتفطر أقدامهم، وصيامهم النهار في الحر والقر إلى أن تتقطع حلوقهم عطشًا وأمعاؤهم جوعًا، وبذلهم أموالهم للفقراء واليتامى والمساكين إلى أن يوشك أحدهم على الحاجة والعوز، كل ذلك مما يراه الله -عز وجل- من عباده من بذل وتضحية في سبيل إرضائه والشعور بلذة القرب منه، فإنه يجعله -سبحانه- يرحم ضعفهم وفقرهم إليه، وإخباتهم بين يديه، وذلهم إليه، فتكون جائزة العشر الأول هي الرحمات التي تتنزل عليهم، فتزيدهم قوة وعزمًا على إتمام ما بدؤوه بدخول الشهر الكريم.
فإذا جاوزا العشر الأول، وغشيتهم العشر الأواسط، ولا يزالون في اجتهادهم في أعمالهم، واستنفادهم قوتهم لأجل إرضاء مولاهم -سبحانه وتعالى-، فلا يزالون في قيامهم، وإحسان صيامهم، وبذلهم وصدقتهم، ودعائهم وتضرعهم، وكانوا من قبل قد تنزلت عليهم الرحمات وغشيتهم سكينتها، فيأتي دور المغفرة، فبعد أن رحم الله تعالى ضعفهم ومسكنتهم بين يديه، فإنه يستر عن الناس ذنوبهم وعيوبهم، ويغفر لهم سيئاتهم؛ فلا يجدون لغصتها أثرًا، ولا لأثرها وقعًا، ولا لتنغيصها مآلاً، بل يتجاوز عن سيئاتهم، ويبدأ معهم صفحة جديدة من حياتهم، فتُمحى الزلات وتثبت الحسنات، وما ذلك لأحد إلا لمن نال رحمة العشر الأول.
فإذا جازوا الأول برحماتها، والأواسط بمغفرتها وسترها، ولا يزالون على حالهم من الاجتهاد والتطلع لنيل الرضا والرضوان والنعيم المقيم؛ فالأبدان لم تشعر براحة، والأقدام قد انتفخت عروقها من الوقوف بين يدي الله، والفاقة بدأت تسري فيما عند العباد من أثر الصدقات، وبُحَّت أصواتهم من دعائه الجنة والمغفرة بإذنه، ودخلت ليلة القدر، بخيرها وبركتها وعباداتها التي تعدل عبادة ما يقرب من قرن من الزمان، وتضرع الجميع: إلهنا وسيدنا: ملأتنا الذنوب والخطايا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، يا من تملك العذاب والنعيم، يا من بيده ملكوت كل شيء، اصرفنا عن النار واصرف النار عنا، باعدنا عن النار وباعد النار عنا، قربنا من الجنة وقرب الجنة إلينا، فيأتي يوم الجائزة، فبعد الرحمة والمغفرة، يَمُنُّ مَنْ يداه كلتاهما يمين، سحاء الليل والنهار، مبسوطتان ينفق كيف يشاء، يَمُنُّ بالإخلاف، وبالمزيد من مزايا الموسم وهدايا المغنم، فيعتق رقاب عباده الصائمين القائمين الركع السجود من الجحيم، تلك الجحيم التي جحيمها جحيم، ونعيمها جحيم، ويتحولون إلى النعيم المقيم، في دار البقاء ودار الزوال، فيعيشون ما بقي لهم من سنوات الدنيا في نعيم، ويتلذذون كل ساعة بذكره والقرب منه، وكلما كثرت عليهم منغصات الحياة علموا أن ذلك رفع لدرجاتهم، وتكفير لسيئاتهم، ثم عما قريب يتحولون إلى نعيم في نعيم، فينعمون ولا يبأسون، ويقيمون فلا يرتحلون، نعيمُ أقلِّهم شأنًا –وليس فيهم قليل- خير من أنعم أهل الأرض جميعًا.
وها هي أيام العشر قد حلّت؛ فعلى الخطباء والدعاة أن يستجيشوا الهمم، ويطلقوا العزائم من أعِنَّتِها، لتستمر على الطاعة والبذل ولا تكسل؛ فالكسل في هذه الأيام هو قمة البوار والخسران؛ فعليهم تذكير الناس بفضائل العشر الأواخر، وما في ليلة القدر من جوائز للعابدين القانتين، لئلا يملوا بعدما مرت عشرون يومًا من الطاعة والاجتهاد، حتى لا يضيع فضلها سدى، ولا يتبخر إحسان عشرين يومًا بإساءة عشرة أيام.
لذلك فهذه مجموعة مختارة من الخطب حول فضائل ليالي العشر والأواخر، وفضل ليلة القدر والاعتكاف، فلعل الله سبحانه ينفع بها، وتكون حاديًا لإفاقة النفوس من سكرتها، وحثها على مزيد من العمل والطاعات، فيُرحموا، ويُغفر لهم ما قد سلف، وتُعتق رقابهم من النار.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم