عناصر الخطبة
1/ رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته 2/ من صور رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمة 3/ الحث على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباعه.اقتباس
إن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام.. وإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه، فهو الذي يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء. ولنكثر جميعاً من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب..
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
أيها الإخوة: روى مسلمٌ في صحيحه حوارٌ عجيبٌ وقعَ بين رسولِنا والروح الأمين جِبْرِيل عَلَيْهِما الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بأمر من الله تعالى.. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم:36] وَقَالَ عِيسَى [أي: وتلا قَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ]: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:118]، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي»، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ.؟» فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ؛ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ» (رواه مسلم).
أيها الإخوة: الله جل في علاه يقول «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ»، فما أعظمه من وعد وأصدقه! وما أرحمه من رسولٍ وألطفه وأكرمه! همّه أمته ونجاتها وقد صور هذا الهمّ بقوله: -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ولقد صدق اللهُ -عَزَّ وجل- وعده وأرضى رَسُولَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في أُمَّتِهِ، وله الحمدُ والمنة من عدة وجوه منها: جعل أجر هذه الأمة مضاعفاً، كما جاء في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ.؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ.؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنَ العَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ"، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ، وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً.؟ قَالَ: «هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟» قَالُوا: لاَ، قَالَ: «فَذَلِكَ، فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».. إذا لا لوم عليه في ذلك ففضل الله على هذه الأمة كثير.
وأرضى اللهُ -عَزَّ وجل- رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في أمته بوجه آخر فهم أول من يقضى بينهم يوم القيامة، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «...نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ» وَفِي رِوَايَةِ وَاصِلٍ «الْمَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ». (رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وهذا لفظ مسلم).
وكذلك أرضى اللهُ -عَزَّ وجل- رَسُولَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في أمته مع أن أمته آخر الأمم زمناً إلا أنها أولهم دخولاً الجنة قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَاخْتَلَفُوا، فَهَدَانَا اللهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ...» (مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
وأرضى اللهُ -عَزَّ وجل- رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في أمته كذلك فجعل لأمته -صلى الله عليه وسلم- من الخصائص والفضائل ما تفوقت به على الأمم أجمع، ففي الصحيحين قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-. فهذه الخصائص له ولأمته عليه الصلاة والسلام..
أيها الإخوة: إن الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- في وعد الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بإرضائه حديث عظيم يدل عَلَى كَمَال شَفَقَة النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أُمَّته, وَاعْتِنَائِهِ بِمَصَالِحِهِمْ، وَاهْتِمَامه بِأَمْرِهِمْ.. وفيه الْبِشَارَة الْعَظِيمَة لِهَذِهِ الْأُمَّة بِمَا وَعَدَهَا الله تَعَالَى بِقَوْلِهِ: "سَنُرْضِيك فِي أُمَّتك وَلَا نَسُوءك" وَهَذَا مِنْ أَرْجَى الْأَحَادِيث لِهَذِهِ الْأُمَّة أَوْ أَرْجَاهَا.. كما قال النووي رحمه الله.
وَهو دليلٌ على عِظَم مَنْزِلَة النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْد الله تَعَالَى, وَعَظِيم لُطْفه سُبْحَانه بِهِ.. ثم إِنَّ إِرْسَال جِبْرِيل لِسُؤَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِما الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِظْهَار لشَرَف النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَّهُ بِالْمَحِلِّ الْأَعْلَى فَيُسْتَرْضَى وَيُكْرَم بِمَا يُرْضِيه، وَهَذَا الْحَدِيث مُوَافِق لِقَوْلِ الله عز وجل: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيك رَبّك فَتَرْضَى) [الضحى:4].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم..
الخطبة الثانية:
يقول الله تعالى واصفاً نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].
أيها الإخوة: لم يقل الله تعالى جاءكم رسول منكم.! ولكن قال (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) للدلالة على عُمقِ الصلة، ونوع الوشيجة التي تربطهم به فهو بضعة من أنفسهم، تتصل بهم صلة النفس بالنفس، وهذا بلا شك أعمق وأحس..
وهذه المنة من الله تعالى على عباده المؤمنين ببعث النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- فيهم من أنفسهم، فهم يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، فلغته لغتهم ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو -صلى الله عليه وسلم- في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم..
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم.. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه.. ولا يلقي بكم -صلى الله عليه وسلم- في المهالك، ولا يدفع بكم إلى المهاوي..
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم.. ولهذا كان حقه مقدماً على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره، وتوقيره..
وبعد أيها الإخوة: سمعتم خوف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمته وحرصه الشديد على هدايتهم واستقامتهم على دين الله.. فهل من السائغ أن نقابل هذا الحرص على خيريتنا بالتمرد على أوامره والخروج عن طاعته..؟! وهل من شيم الكرام رد دعوة الكريم، ورفض نصيحة الناصح؟!
إن حقه علينا الاستجابة له طاعة لله؛ فقد قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24]، نعم! إن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام.. وإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه، فهو الذي يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء.
ولنكثر جميعاً من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلوبنا إلى طاعتك.. وصلوا على نبيكم..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم