يا ساهر الليل

سامي بن محمد العمر
1446/01/12 - 2024/07/18 21:24PM

الساهرون ليلهم  

بين قيام الليل وقيامٍ في الليل فرق شاسع وبون واسع.
فالقيام الأول: قيام القلب ويقظته، وانتباه الروح واستعدادها حتى تسير في دأب الصالحين، وتنافس في ميادين المتقين، وتناجي خالقها ربَّ العالمين.
وأما القيام الثاني: فهو قيام البدن وسهره، وتركُه للنوم من أجل ملاهٍ وملذات، وألعاب وحكايات، ولهو وسهرات.
فهل يستوون؟ كلا وألف كلا
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]
فالذين يعلمون: هم أهل القيام الأول المستيقظون بالليل لذكر الله ودعائه واستغفاره ومناجاته والذين مدحهم الله تعالى فقال:
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16, 17]
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] وقال الله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذريات: 17, 18].
وأما الذين لا يعلمون: فهم أهل القيام الثاني، الذي يظهر جلياً على كثير من الناس في أيام الإجازات.
ولكن: ما الأمر الذي لا يعلمونه، وما المعنى الذي يجهلونه؟ وما الخير الذي يفوتونه؟
ساعات الليل تمر عليهم سريعة وهم في غفلة عن وضوء في جوف الليل، وصلاة تسكب فيها العبرات، وترفع فيها الدعوات، وتعظم بها الحسنات، وتكفر بها السيئات.
 
الساهرون ليلهم لن تعجزهم ركعة ينقطعون فيها عن دنياهم، ليرتقوا بها إلى معالي العز والتكريم بمناجاة رب العالمين.
الساهرون ليلهم لن تعجزهم ركعة يرفعون في سجودها طلباتهم وحاجاتهم لمن ينزل آخر كل ليلة نزولا يليق بجلاله وعظمته فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه؟([1])
الساهرون ليلهم لن تعجزهم ركعة يتذكرون في سجودها ذنوبًا فعلوها، وجرائمَ ارتكبوها فيطلبون مغفرتها ممن يقول في كل ليلة: من يستغفرني فأغفر له؟
الساهرون ليلهم لن تعجزهم ركعة يقرأ الواحد فيها عشر آيات ينجو بها من مشابهة الغافلين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين))([2]).
الساهرون ليلهم لن تعجزهم ركعة يتذوقون فيها لذات العبادة، فكل ملذوذ إنما فيه لذة واحدة إلا العبادة ففيها ثلاث لذات: إذا كنتَ فيها، وإذا تذكرتها، وإذا أُعطيتَ ثوابها.
عجباً! كيف يستطيع المرء تنظيم سهرته وترتيب سمرته ولا يجعل فيها بضع دقائق يلمُّ فيها شعث روحه، ويرتب فيها فوضى قلبه، يتقرب بها إلى ربه الذي حفظه في ليه ونهاره، وأغدق عليه من مِنَنِه وأفضاله {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42].
عجباً لمن آمن بالله وجنته وناره كيف لا يصلي من جوف الليل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لمعاذ رضي الله عنه:  ((ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل - أي تطفئ الخطايا كالصدقة - ثم قرأ {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}الآية([3])  
 
بارك الله لي ولكم....  
الخطبة الثانية  
أما بعد:
أيها الساهر ليله:
اعلم أن " الليل منهل يرده أهل الإرادة كلُّهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه، والخائف يتضرع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي يلح في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه"([4]).
فبالله عليك أيها الساهر ليله؛ لا تفوت سجدة تناجي فيها ربك بقلب راج وعين دامعة فتقول له:
يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا عظيم العفو، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، يا كريم الصفح، يا عظيم المن، يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها، يا رب، ويا سيدي، ويا مولاي، ويا غاية رغبتي، ثم تسأل ما شئت من رب كريم جواد معطاء([5])، فإنك لا تعلم ما أخفي لك من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون.
اللهم اهدنا فيمن هديت..  
 
([1]) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في البخاري (1145) ومسلم (758).
([2]) حديث حسن بشواهده أخرجه أبوداود (1398) وغيره.
([3]) الترمذي (2616) وغيره وصححه الألباني
([4]) لطائف المعارف لابن رجب ص46.
([5]) انظر: مستدرك الحاكم 1/544
المرفقات

1721327053_يا ساهر الليل.docx

1721327054_يا ساهر الليل.pdf

المشاهدات 1274 | التعليقات 0