يا حاطب، ما هذا؟

راكان المغربي
1446/02/25 - 2024/08/29 13:53PM

 

الخطبة الأولى

أما بعد:

في السنةِ الثامنةِ من الهجرةِ، وبعد صُلحِ الحديبيةِ بسنتين، نقضتْ قريشٌ عهدَها مع الرسولِ صلى الله عليه وسلم. وحينها عزم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أن يغزوَ قريشاً في عقرِ دارهم، ويخلصَ مكةَ المشرفةَ من الشركِ وأهلِه.

حرِصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يخفيَ عزمَه على الغزوِ، وأراد أن يباغتَ قريشاً فلا يعلمون عنه حتى يصلَ إليهم. وظلّتْ خطةُ الغزوِ سريةً لا يُسمَحُ لأحدٍ بإفشائِها.

وفي هذه الأثناءِ، كتبَ الصحابيُّ البدريُّ الجليلُ حاطبُ بنُ أبي بَلْتَعَةَ -رضي الله عنه- كتاباً إلى قريشٍ يخبرُهم بخطةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومسيرِه إلى مكةَ، وأعطى الكتابَ امرأةً من مزينةَ لتوصلَه إلى قريشٍ.

ينزِلُ الوحيُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالخبرِ، فيبعثُ مجموعةً من الصحابةِ لإدراكِ الكتابِ قبل أن يصلَ إلى قريشٍ.

يقول عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي الله عنه-: "بَعَثَنِي رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَا، والزُّبَيْرَ، والمِقْدَادَ، فَقالَ: (انْطَلِقُوا حتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ -موضع بين مكة والمدينة-؛ فإنَّ بهَا ظَعِينَةً معهَا كِتَابٌ، فَخُذُوا منها).

قالَ: فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بنَا خَيْلُنَا حتَّى أتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بالظَّعِينَةِ، قُلْنَا لَهَا: أخْرِجِي الكِتَابَ، قالَتْ: ما مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ، أوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قالَ: فأخْرَجَتْهُ مِن عِقَاصِهَا -وهو الشعر المضفور أو الخيط الذي يشد به أطراف الشعر-.

فأتَيْنَا به رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِن حَاطِبِ بنِ أبِي بَلْتَعَةَ، إلى نَاسٍ بمَكَّةَ مِنَ المُشْرِكِينَ، يُخْبِرُهُمْ ببَعْضِ أمْرِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.

فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (يا حَاطِبُ، ما هذا؟!)

قالَ: "يا رَسولَ اللَّهِ، لا تَعْجَلْ عَلَيَّ؛ إنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ -يقولُ: كُنْتُ حَلِيفًا، ولَمْ أكُنْ مِن أنْفُسِهَا- وكانَ مَن معكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ مَن لهمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أهْلِيهِمْ وأَمْوَالَهُمْ، فأحْبَبْتُ -إذْ فَاتَنِي ذلكَ مِنَ النَّسَبِ فيهم- أنْ أتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، ولَمْ أفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عن دِينِي، ولَا رِضًا بالكُفْرِ بَعْدَ الإسْلَامِ".

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقكُمْ).

فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هذا المُنَافِقِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ).

فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ.

فأنْزَلَ اللَّهُ السورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.

وبين يديْ هذا الموقفِ لنا عدةُ وقفات:

الوقفةُ الأولى: أن المؤمنَ مهما بلغَ من الصلاحِ، فإن نفسَه قد يعتريها الضعفُ البشريُّ، فهذا حاطبٌ الصحابيُّ الجليلُ الذي شهدَ بدراً، وكان له قدمَ صدقٍ في الإسلامِ، تمكّنَ الشيطانُ منه في لحظةِ ضعفٍ، فاستلَّ منه خيانةً وإفشاءً لسرِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. ونستلهمُ من المعلمِ الرحيمِ، والمربي الحنونِ صلى الله عليه وسلم، كيف نتعاملُ مع الناسِ في لحظاتِ الضعفِ العارضة؟

إنه صلى الله عليه وسلم لم ينسَ عظيم فضلَ حاطبٍ، وحسنَ سيرتِه، وصفاءَ ماضيه، فنظر إلى هذا الموقفِ العارضِ مستحضراً حياتَه المليئةَ بالجهادِ والتضحيةِ للدينِ، والصدقِ مع اللهِ ورسولِه. فمع أنه عملَ عملاً من أعمالِ المنافقين، إلا أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعتبرْه منافقاً، بل أثبتَ له الصدقِ، وتذكّرَ شهودَه يومَ بدرٍ، وحسنَ بلائِه فيه.

الوقفة الثانية: ضرورةُ معرفةِ دوافعِ الخطأِ، فهذا الأمرُ يعينُ على فهمِ المشكلةِ ثم وصفِ العلاجِ الناجعِ لها. وهذا ما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يعجلْ بمعاقبةِ حاطبٍ أو الحكمِ عليه قبل أن يستفصلَ عن الأمرِ، ويعرفَ الدوافعَ، فقال له: (يا حَاطِبُ، ما هذا؟!) وفي رواية: (يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟).

فبين له حاطبٌ أن دافعَه لم يكنْ كرهَ الإسلامِ أو الاصطفافَ في صفِّ المشركين، كما ورد في أحدِ الروايات أنه قال: "أمَا إنِّي لم أَفْعَلْه غِشًّا لرسولِ اللهِ ولا نِفاقًا، قد عَلِمتُ أنَّ اللهَ مُظْهِرٌ رسولَه، ومُتِمٌّ له أمْرَه"، وإنما فعلَ ما فعلَ لتكونَ له مكانةٌ عند قريشٍ فيحمون أهلَه وقرابتَه. وهناك فرقٌ بين الدافعين مع أن الفعلَ قد يكونُ واحدا.

فإن كان دافعُ الفعلِ الاصطفافَ مع الكفارِ ومعاونتَهم على المسلمين لحربِهم وإضعافِ دينِهم، فهذا هو النفاقُ والردّةُ عن الدينِ الذي تبرأَ منه حاطبٌ -رضي الله عنه-، وأما إذا كان دافعُ الفعلِ المصلحةَ الشخصيةَ مع بقاءِ محبةِ الدينِ وتمني نصرتِه، فهو خيانةٌ عظمى وكبيرةٌ من الكبائر، لكنّها لا تصلُ بصاحبِها إلى الكفر.

الوقفةُ الثالثةُ: ستكونُ مع ما عقَّبَ اللهُ سبحانه به على هذه الحادثةِ من الآياتِ البيّناتِ، فقد أنزل اللهُ سورةَ المُمْتَحنَة، يحذرُ فيها أهلَ الإيمانِ من تولي الكافرين ومودتِهم، وهم الذين يكيدون لأهلِ الإسلامِ المكائدِ، ويمكرون بهم أشدَّ المكرِ، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ ۚ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

ثم بيّنَ سبحانه النموذجَ العالي الذي يجبُ أن يقتديَ به أهلُ الإيمان، وهو إبراهيمُ -عليه السلامُ- ومن كانَ معه، فقال جل وعلا: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)

ثم طمَّعَ اللهُ سبحانه المؤمنين بزوالِ العداوةِ مع المشركين، وذلك حين يؤمنونَ باللهِ ويتبعونَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حصل قريباً حين أسلمَ جلُّ قريشٍ ودخلوا في دين الله أفواجا، قال سبحانه: (عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وبعد ذلك بيّنَ اللهُ سبحانه أن النهيَ عن تولي المشركين لا يتعارضُ مع معاملةِ المسالمِ منهم بالبرِّ والقسطِ والإحسانِ، فهذا أمرٌ يحبُّه اللهُ ويحبُّ فاعلَه، قال جل وعلا: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

إنّ من أعظمِ أسبابِ البلاءِ وحلولِ المصائبِ، أن يتفرَّقَ صفُّ المسلمينَ فلا يوالي بعضُهم بعضاً، ولا ينصرُ بعضهم بعضا، بل يصل الأمرُ من بعضِهم إلى أن يتخذَ الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، وقد بيَّن اللهُ سبحانه أن مآلَ هذه الأفعالِ هو الفتنةُ في الأرضِ والفسادُ الكبيرُ.

يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ). قال الشنقيطي -رحمه الله-: "هذه الآيةُ الكريمةُ مِن الآياتِ العِظامِ التي يُعتبَرُ بها؛ لأنَّ ما ذكَرَه اللهُ جَلَّ وعلا فيها وما حَذَّرَ منه مِنَ الفِتنةِ والفَسادِ الكَبيرِ إنْ لم يُوالِ المُسلِمونَ بَعضُهم بعضًا، ويَقْطعوا مُوالاةُ الكُفَّارِ، ويَترُكوا الكُفَّارَ بَعضُهم يُوالي بَعضًا؛ ما حَذَّرَ به مِن أنَّهم إن لم يُحاِفظوا على صِدقِ المُوالاةِ بيْنهم، ومُقاطعةِ أعدائِهم، تَقَعْ في الأرضِ الفِتنةُ والفَسادُ الكبيرُ، فهو واقِعٌ مُنتَشِرٌ الآنَ: يَدُلُّ على عِظَمِ هذا القُرآنِ العَظيمِ، وأنَّه كلامُ رَبِّ العالَمينَ، وأنَّ تحذيرَه حَقٌّ، وتَرغيبَه حَقٌّ".

وقال سبحانه في آية أخرى محذرا عباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)

فليحذر المسلم من أن يتولى الكافرين ويقف في صفهم، فيودهم وينصرهم ويعينهم على إخوانه المؤمنين، فإن من يفعل ذلك ولو بشطر كلمة فهو على جرم عظيم، وإثم كبير (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين...

المرفقات

1724928865_يا حاطب، ما هذا؟!.docx

1724928870_يا حاطب، ما هذا؟!.pdf

المشاهدات 1164 | التعليقات 0