وعند الله تجتمع الخصوم-2-6-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
محمد بن سامر
وعند الله تجتمع الخصوم-2-6-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عليه وآلهِ صلاتُه وسلامُه وبركاتُه.
"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد: فيا إخواني الكرام:
انتهتْ الجلسةُ، وحَكمَ القاضي، وصدرَ صَكُّ الحُكمِ، وخرجَ أطرافُ القضيةِ من المحكمةِ، وانصرفَ الشُّهودُ، وأُغلقَ ملفُ القضيةِ.
أما القاضي فقد حكمَ بما ظهرَ إليه، وأدَّى ما أوجبَ اللهُ عليهِ، فَقَدْ سَمِعَ النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَّ-جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: "إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ أقْضِي له بذلكَ، وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا"، وأما تفاصيلُ القضيةِ الخفيَّةِ، فاللهُ تعالى وحدَه أعلمُ بها.
ولقد صدرَ الحكمُ على ما كانَ في القضيةِ من قرينةٍ ودليلٍ، وعلى ما فيها من شُهودٍ وتفصيلَ، وقد يكونُ المُدعي صاحبَ ذكاءٍ وجِدالٍ، أو أتى بالمُحامينَ الأبطالِ، فكسَبَ القضيةَ بَغيًا، وأَخذَ حقَّ أخيه ِظُلمًا، فخرجَ المُدَّعى عليهِ مَظلومًا مَقهورًا، وخرجَ المُدعي ظَالـمًا مَغرورًا.
لكن هل انتهتْ القضيةُ، وقد ظُلمَ فيها خَلْقٌ؟ والجوابُ: لا.
أما في الدُّنيا، فقد قالَ النبيُ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَّ-: "وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ".
لا تظلِمنَّ إذا ما كنتَ مُقتدرًا*فالظلمُ ترجِعُ عُقباهُ إلى النَّدَمِ
تنامُ عَينُكَ والمظلومُ مُنتبِهٌ*يدعُو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنَمِ
كانَ يزيدُ بنُ حكيمٍ-رحمه اللهُ-يقولُ: "ما هبتُ-خفتُ-أحدًا قط هيبتي رجلًا ظلمتُه، وأنا أعلمُ أنه لا ناصرَ له إلا اللهُ يقولُ لي: حسبي اللهُ، اللهُ بيني وبينكَ"، لا إلهَ إلا اللهِ، واللهِ إنَّها كلمةٌ تقشَّعرُ منها الأبدانُ.
واسمعوا إلى هذهِ القِصَّةِ العجيبةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: "رَأَيْتُ رَجُلًا مَقْطُوعَ الْيَدِ مِنْ الْكَتِفِ وَهُوَ يُنَادِي: مَنْ رَآنِي فَلَا يَظْلِمَنَّ أَحَدًا، فَتَقَدَّمْت إلَيْهِ وَقُلْت لَهُ: يَا أَخِي مَا قِصَّتُك؟، فَقَالَ: قِصَّتِي عَجِيبَةٌ، ظلمتُ مسكينًا: أخذْتُ منه سمكةً كانتْ قوتَ عيالِه، فلما رجعْتُ إلى بيتِي شعرتُ بألمٍ شديدٍ في إبهامي، فأتيتُ الطبيبَ فقالَ له: هذه بدايةُ أَكَلَةٍ-مرضِ موتِ العضوِ: غنغرينا-، اقطعها وإلا تَلفتْ يدُكَ كلُها، فقطعْتُها، ثُمَّ انتشرَ الألمُ إلى الكفِ فقطعْتُها، ثمَّ انتشرَ إلى السَّاعدِ فقطعْتُها من المرفقِ، ثمَّ انتشرَ إلى العضدِ فقطعْتُها من الكتفِ، فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ: مَا سَبَبُ أَلَمِكَ فَذَكَرْتُ لَهُ قِصَّةَ السَّمَكَةِ، فَقَالَ لِي: لَوْ كُنْتَ رَجَعْتَ مِنْ أَوَّلِ مَا أَصَابَك الْأَلَمُ إلَى صَاحِبِ السَّمَكَةِ فَاسْتَحْلَلْتَ مِنْهُ وَاسْتَرْضَيْتَه وأعطيْتَه حقَه لـمَا قُطِعْتْ يَدُك، فَاذْهَبْ إلَيْهِ وَاطْلُبْ رِضَاهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ المرضُ إلَى جسمِك كلِّه.
فبحثتُ عنه فِي الْبَلَدِ حَتَّى وَجَدْتُه، فَوَقَعْتُ عَلَى رِجْلَيْهِ أُقَبِّلُهُمَا وَأَبْكِي، وَقُلْتُ: سَأَلْتُك بِاَللَّهِ أن تعفوَ عَنِّي، فَقَالَ لِي: وَمَنْ أَنْتَ؟، فَقُلْت أَنَا الَّذِي أَخَذْتُ مِنْك السَّمَكَةَ ظلمًا، وَذَكَرْتُ لَهُ مَا جَرَى، وَأَرَيْتَه يَدِي فَبَكَى حِينَ رَآهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَخِي قَدْ سامحتُك وعفوتُ عنك لمرضِك، فَقُلْتُ لَهُ: بِاَللَّهِ هَلْ دَعَوْتَ عَلَيَّ لَمَّا أَخَذْتُهَا مِنْك؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: اللَّهُمَّ هَذَا تَقَوَّى عَلَيَّ بِقُوَّتِهِ عَلَى ضَعْفِي، وَأَخَذَ مِنِّي مَا رَزَقْتَنِي ظُلْمًا، فَأَرِنِي فِيهِ قُدْرَتَك، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ أَرَاك اللَّهُ قُدْرَتَهُ فِيَّ، وَأَنَا تَائِبٌ إلَى اللَّهِ-عَزَّ وَجَلَّ-عَمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ، فسبحانَ الذي لا يغفلُ عن الظَّالمينَ".
هذا يحيى بنُ خالدٍ البرمكيَّ-أَحدَ وزراءِ بني العَباسِ-سجنَه هارونُ الرشيدُ-رحمه اللهُ-، فقَالَ له أَحدُ بَنيهِ-وهما في السجنِ والقيودِ-: يا أبتَ، بعدَ الأمرِ والنَّهي والنعمةِ، صِرنا إلى هذا الحالِ-بعدَ ما كنا وزراءَ أصبحنا مسجونين-فقَالَ: يا بُنيَّ، دَعوةُ مَظلومٍ سَرتْ بليلٍ ونحنُ عنها غَافلونَ، ولم يَغفل اللهُ عَنها، ثمَّ أَنشأَ يَقولُ:
ربَّ قومٍ قد غدوا في نعمةٍ*زَمنًا والدَّهرُ ريَّانٌ غَدِقْ
سَكتَ الدَّهرُ زَمانًا عَنهمُ*ثُمَّ أَبكاهُم دَمًا حِينَ نَطَقْ
أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فأما عاقبةُ الظلمِ يومَ القيامةِ فاسمعْ، رَأَى رَسُولُ اللَّهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَّ-شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ لأَبِى ذَرٍّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ، قَالَ: لاَ، قَالَ: لَكِنَّ اللَّهَ يعلمُ وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يومَ القيامةِ"، فإذا كانَ هذا القضاءُ في البهائمِ والدَّوابِ، فكيفَ بالعبادِ أصحابِ العقولِ والألبابِ.
ففي ذلكَ اليوم، هناكَ جلسةُ استئنافٍ لبعضِ القَضايا، سَتُفتحُ فيها الملفاتُ والخَفايا، في محكمةِ العدلِ التي لا ظُلمَ فيها: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسبينَ"، وسيؤتى فيها بصحيفةِ الدَّعوى الحقيقيةِ، التي لا كذبَ فيها ولا تزويرَ، وتُعطى للمدَّعي ليقرأَها على رؤوس الأشهادِ: "وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُورًا*اقرأ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا"، والشُّهودُ عليه أعضاؤُه الذينَ لم يفارقوه طرفةَ عينٍ: "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، وهناكَ سيصدرُ الحكمُ العادلُ النِّهائيُّ في القضيةِ.
أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُؤْمٌ*وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي*وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا*غَدًا عِنْدَ الإِلَهِ مَنِ الْمَلُومُ
واسمعوا للشَّفيقِ بأمتِّه-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَّ-وهو يقولُ لكم: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لأَخِيه، مِنْ عِرضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قبْلَ أنْ لاَ يَكُونَ دِينَار وَلاَ دِرْهَمٌ؛ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلمَتِهِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيهِ"، فتخلصْ اليومَ من ظُلمِك؛ برُدَّ الحقوقِ إلى أصحابـِها، وطلبِ السماحِ والعفوِ منهم، فإنْ لم تفعلْ قبل أنْ يأتيَ يومُ القيامةِ أُخِذَ من حسناتِك، فإنْ انتهتْ حسناتُك أُخِذَ من سيئاتـِهم فزيدتْ في سيئاتِك بقدرِ ظلمِك لهم وحقِهم وأُدخلْتَ النارَ.
لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا اللهُ ربُ العرشِ العظيمِ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُ السماواتِ وربُ الأرضِ وربُ العرشِ الكريمِ، لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَك إنَّا كنا من الظالمينَ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ، وأصلحْ بطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اهدنا والمسلمين لأحسن الأخلاق والأعمال، واصرف عنا وعنهم سيئها، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، نسألُك لنا ولهم من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ، اللهمَ اسقنا وأغثنا(ثلاثًا).
اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وأنبياءِ ورسلِه وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1610642161_وعند الله تجتمع الخصوم-2-6-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1610642165_وعند الله تجتمع الخصوم-2-6-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf