وبقي أعظمه ( عن العشر الأواخر )
أحمد عبدالعزيز الشاوي
الحمد لله مقدر الأقدار ومكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه من إله عظيم يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام العابدين وسيد الذاكرين والشاكرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون فمن اتقى الله نجا، ومن اتقى الله خاف ورجا.
وتمضي الأيام وتتصرم الليالي ، وماكنا بالأمس نستقبله .. هاهو يتأهب لعشره الأخير
مضى معظمه سريعا بعدما شهد تصارع الهمم بين عشاق الجنات وطلاب الشهوات ، وصدق الله ( أياما معدودات ) وكذلك تمضي بقية الشهور والأيام وتنصرم الأعمار ، وكل يوم مضى يدني من الأجل
مضى معظمه ، ومن رحمة الله أن من فرط في يومه استدركه في غده واستغفر وأناب إلى خالقه ، ومن مضى عليه العشرون في تفريط وتقصير فليغتنم العشر الأخير فهي أعظم الشهر وأكرمه ، والعبرة بالخواتيم ، وبجمال النهايات وكمالها لابنقص البدايات وسوئها
مضى معظمه ، أيام كغيرها شهدت رحيل أقوام إلى الدار الآخرة ، كانوا مثلنا يؤملون ويخططون لمستقبلهم ، ويتهيأون لعيدهم ، ويرسمون لوحة لغد جميل حافل بكل صور الجمال لكن سيف المنون كان بالمرصاد ( وماتدري نفس ماذا تكسب غدا ) وهنا تتأكد الوصية ( ياأيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ... )
مضى معظمه وجاء أعظمه حيث العشر الأخير وحيث كان رسولنا النبي العابد صلى الله عليه وسلم يشد المئزر ويوقظ أهله ويحيي ليله فاستنوا برسولكم وسابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين
بقي من الشهر أعظمه وفيه الليلة المباركة ليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر والتي تتنزل فيها الملائكة والروح من كل أمر سلام حتى مطلع الفجر فهنيئا لمن تحراها والتمسها بإحياء العشر كلها بالتهجد والقيام والصلاة مع الإمام والإحسان والإطعام ولم يشغل نفسه برسائل الرؤى وأضغاث الأحلام التي توهم الناس ان ليلة القدر في هذه الليلة أو تلك فإنما هي رسائل تخدير وتوهين وإضعاف للهمم
هنيئا لمن تخلى عن تفاهات الدنيا وانشغل بما يرفعه وينفعه ويجده يوم تجد كل نفس ماعملت من خير محضرا ، ومن حرم خيرها فقد حرم ، وإنما هو توفيق أو خذلان
جاءت العشر لتكون تاجا للعاملين وغرة في جبين العابدين، ولتكون فرصة للمقصرين، ومنحة للمذنبين، وإنما الأعمال بالخواتيم.
جاءت العشر لتقول للناس : ماذا بقي من عنائكم وسهركم أيها العاملون العابدون، لقد مضى العناء وبقي الأجر والثناء، وماذا بقي من لذتكم وشهوتكم أيها العابثون، ذهبت لذاتها والإثم حل.
وكم من معاص نال منهن لذة فراح وخلاها وذاق الدواهيا
تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
وإن كبير الهمة ليتحسر على ساعة مرت به في الدنيا لا لأنه عصى الله فيها وإنما لأنه لم يعمرها بذكر الله عز وجل وفي الحديث: ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها.
بقي من الشهر أعظمه فلنستشعر ضعفنا وفقرنا وحاجتنا إلى الله ولنتذكر نداء القوي العلي الغني لعباده الضعفاء الفقراء الأذلاء لنخضع للخالق ونلتجيء إلى حمى الغني الكريم : ( يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» [رواه مسلم].
إنها كلمات تبعث في النفس الرهبة والرغبة، وإنها لكلمات تشعرنا بذلنا وضعفنا وفقرنا.
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ]
وهذا نبي الله موسى عليه السلام يخرج خائفاً يترقب فلما ورد ماء مدين وسقى للمرأتين ثم تولى إلى الظل الظليل لم ينسه ذلك الظل ظلاً أعظم ومأوى أكرم ولطفا أشمل ورعاية أكمل، فلبس ثوب الفقر وارتدى جلباب الفاقة وأعلن حالة المسكنة ورسم لوحة الذل في عبارات حانية وكلمات هادئة ومناجاة صادقة [رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ]
إن المرء مهما أوتي في الحياة من مال أو جاه أو رفعة أو منصب فهو فقير إلى ربه محتاج إلى كرمه، وكل ما أوتيه ما هو إلا ذرة من كرم الكريم ومن عطاء الغني [وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ]
مضى معظم الشهر وبقي أعظمه ، فأروا الله من أنفسكم خيراً، وقدموا لأنفسكم واعلموا أنكم ملاقوه، ونافسوا في ميادين الخير والصلاح صلاة وتلاوة وذكراً واعتكافاً وصدقة وبراً فما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير.
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء.
اقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
أما بعد:
أيها المسلمون: ومع العشر الأواخر تزدان المساجد بثلة من أهل الهمم يحيون سنة مهجورة من سنن المصطفى ﷺ بلزومهم المساجد للاعتكاف، تراهم ركعاً سجداً يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين.
يا معشر المعتكفين: إن الله لا يضيع أجر المحسنين وإنما يتقبل الله من المتقين وأبشروا بمغفرة من ربكم فإن ربي غفور رحيم.
وإني مذكركم بأن روح الاعتكاف هو تخلية القلب لله والإلحاف في طلب عفوه والإلحاح في نيل رضاه. وإن اللائق بالاعتكاف أن يكون عزوفاً عن مخالطة الناس وإقبالاً على الخلوة مع الله.
وإني مذكركم بأن قطع العلائق عن الخلائق أياماً وليالي معدودات في بيت من بيوت الله يفجر في النفس روحاً للمصارحة والمطارحة تجعلها تقبل على المحاسبة قبل أن تحاسب، وتتبع تلك المحاسبة بالمراقبة، فالكَيْس كل الكيس في الدينونة لما بعد الموت، والعجز كل العجز في إتباع النفس لهواها.
وإني مذكركم بأن الاعتكاف يجمع طاعات وعبادات، من صلاة في الجماعة وتلاوة للقرآن، وأداء للأذكار وانتظار للصلوات، وصلاة بالليل والناس نيام، ومحافظة على سنة الضحى، والسنن الرواتب وغيرها من الطاعات.
وإني مذكركم بأن الاعتكاف خلوة بالرحمن. فاحذروا من كثرة الأحاديث وقللوا من المخالطة واشتغلوا بما يصلح قلوبكم. ولايشغلنكم الجوال عن ذكر ذي العزة والجلال
هذه العشر قد أقبلت وفتحت ذراعيها للطالبين التائبين، فتزود لآخرتك من دنياك ولا يلهينك عن غايتك فتات الطريق وبريق الشهوات وحلاوة العيش، [قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى]
اعمل بوصية الإمام أحمد لابنه حينما قال : انو الخير فإنك لاتزال بخير مانويت الخير ، فكن للخير ناويا يكتب لك أجره ولو لم تعمله
تزود ما دمت قادراً قبل أن تقول باكياً حين تبلغ الروح الحلقوم والناس إليك ينظرون: رب أمهلون وإلى الدنيا ارجعون، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت فيقال لك: كلا، فقد انتهت الحياة ومضت فترة الاختبار فاللهم وفقنا للتوبة قبل الممات وأعنا على العمل الصالح الجميل قبل الرحيل.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
المرفقات
1711662800_وبقي أعظمه.doc