والله لا يحب الفساد
عبدالعزيز بن محمد
أيها المسلمون: تتسامى المِلَلُ، وتتبارى الشرائِعُ، وتتطاولُ الأديان.. فلا دينَ يُسَامي دينَ الإسلامِ، ولا مِلَّةَ تُدَاني ذُرَاه.. دينٌ أقامَ للأمةِ صروحَ العِزَّ، وشَيَّدَ لها قِلاعَ الكرامةِ. ومَهَّدَ لها أسباب النصرِ وأبانَ لها دروبَ التمكين..* دينٌ اصطفاهُ اللهُ لِعِبادِه وأتَمَّهُ لهم.. قَوَّمَ العقيدةَ، وهذَّبَ السلوكَ، وتَمَّمَ الأخلاقِ، وأصلح شأن الفردِ وحمى سياجَ المجتمع. أقام العدلَ وأمر به، وأبطل الجورَ وحذَّرَ منه.
* دِينٌ.. متى ما كانتْ له السِّيادَةُ في الأمةِ.. فكان القرآن لها دستورٌ.. وصحيحُ السُّنَّةِ لها مُعتَمد، كانت لها الرِّفعةُ والصدارةُ والسمو. ومتى ما أعرضت الأمةُ عن تعاليمِ الدينِ، وَسَلَكَتْ طَرِيقاً عنِ الدِّينِ مُجانِباً، تَتَسَوَّلُ من تشريعاتِ الأممِ لها دُسْتُور، وتُرَقِعُ لها مِن قوانينِ البَشَرِ لها نظام، فإن الأمةَ ستتخبطُ في متاهاتٍ من الذُّلِّ لا تَبْرَحُها، وفي ضلالاتٍ من الجهالةِ لا تُفارِقُها.
* إن تشريعاتِ الإسلامِ للريادَةِ والسيادةِ لوافيةِ، وإن أنظِمَتَهُ للعدالةِ والنزاهةِ لكافية، حقوقٌ محفوظةٌ للفردِ والمجتمع. فلا بغيَ ولا بخسَ، ولا هَضمَ ولا عدوان. آياتٌ مِنَ كتابِ اللهِ محكمات، وأحاديثُ مِن سُنّةِ رسول الله r مُبَيِّنات، إليها التحاكُمُ وعليها المُعتَمَد، بها قِوامُ الأمةِ، وبها لها تكونُ النجاة {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
عباد الله: والأموالُ.. مِن أعظمِ الأمورِ التي حَفِظها الإسلامُ وحماها، وصانَها ورعاها، وحَذَّرَ مِن الاستهانةِ بها والجُرأةِ عليها، وَجَعَلَهَا مِن الضروراتِ التي بإصلاحِها يكونُ صلاحُ أمرِ الناسِ، وبالفسادِ والاعتداء عليها تَفسُدُ على الناسِ معايشَهُم.
* شأنُ الأموالِ في الإسلامِ شأنٌ عظيمٌ.. فلا يَتَولَّى تَسْيِيْرَ أمرِ المالِ إلا مَن تحققَ رُشْدُهُ وصلاحُه، تَوجيهٌ ربانيٌ وتوعيةٌ سماوي.. {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} احفظوا أموالكم مِن التبذيرِ والإسرافِ وسوءِ التدبيرِ، واحفظوها عن يَدِ كُلِّ سفيهٍ لا يُقِيْمُ للمالِ وزناً. ولا يرعى له قِيمَة.
وحينَ يكونُ المالُ ملكاً لقاصِرٍ لا يُحسنُ التدبير.. فإن الشريعةَ جاءت بحفظِ مالِه وصيانتِه، فَلا يدفعُ مالُ اليتيمِ له حتى يَبْلُغَ ويتحققَ رُشدُه {وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وكذا الرجُلُّ السَّويُّ.. حين يعتري عقلَهُ عِلَّةٌ، وينتابُه فيه قُصورٌ.. فإنه يقامُ عليه وليٌ يرعى له في المالِ شؤونَه حتى يبرأَ مِن عِلَّتِه.
* وأموال الناسِ عامةً فيما بينهم، لها حرمةٌ مقرونةٌ بِحرمَةِ النفسِ المعصومَة، والعِرضِ المُصَان. وقَفَ رسولُ الله r خطيباً يومَ النَّحر بِمنىً في حجَّةِ الودَاعِ فقال: (إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت) متفقٌ عَلَيهِ
* وَلِحُرْمةِ الأموالِ في الإسلامِ.. أحلَّ الله البيعَ وحرَّم الرِّبا، فالربا جَوْرٌ وظلمٌ وفَسادٌ وعُدوانٌ، يَمْحَقُ الله الرِّبا، والمُرابِونَ قد آذنَهُمُ اللهُ بحربٍ مِنهُ ورَسوْلِه.
* وَلِحُرْمةِ الأموالِ في الإسلامِ.. أباحَ اللهُ المالَ مِنْ كَسٍبٍ طَيِّبٍ، وحَرَّمَهُ مِن كَسْبٍ خَبِيث. حَرَّم الغِشَّ في البَيْعِ وفي الصَّنْعةِ وفي سائرِ العقودِ والتعامُلات، فقال رسولُ اللهِ r قولاً زاجراً (مَنْ غشَّ فليس منِّي) رواه مسلم
* وحَرَّم الإسلامُ أكلَ أموالِ الناسِ بالباطل بشتى صُوَرِه.. فَكُلُّ مالٍ أُخِذَ مِنْ صاحِبِه بغير وجه حقٍّ، فهو حرامٌ.. بالغشِّ أو الخِداعِ، أو السرقةِ أو المكوسِ، أو غيرها مِن طرائقِ العدوانِ على الأموال.. بالغصبِ أو الحيلةِ، أو المكرِ أو الخداع. كُلُّها فسادٌ وعدوانٌ، يُوْجِبُ المحقِ والهلاكِ والعذابِ على آخِذِهٍا وعلى مَن أعانَ على أخذِها، فَرَبُّ العالمينَ قد نهى وحذَّرَ وزَجَر: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} * وَحَرَّم الإسلامُ الرِّشوةَ .. وهي كُلُّ عَطِيَّةٍ أو هَدِيَّةٍ أو مالٍ يُدفعُ لِيُشْتَرى به ذِمَّة مَنْ له قدرةٌ أو وجاهةٌ أو منصبٍ، لِيُعيْنَ على عَمَلِ ما لا يَـحِلّ، أو على تحقيقِ منفعةٍ لم يكُن لِيَبْلُغَها قَبْلَ غيرِه بالعدلِ لولا هذا المالُ والعَطِيَّة)
وهذه الرشوةُ ولو كانت نزراً يسيراً، فإنها من كبائر الذنوبِ وهي من أكل أموالِ الناسِ بالباطل، جاء اللعنُ والوعيد لأركانها الثلاثة.. الراشي والمرتشي والوسيط، في حديثِ ثوبانَ t أن رسول الله r "لعن الراشي والمرتشي والرائش" رواه الإمامُ أحمد وغيره، وفي القرآنِ قال الله:{سمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قال العلماءُ : والسُّحتُ هي الرشوة. وللرشوةِ طرائقُ تتجلى في صورٍ شتى.. وحين يلوحُ للنفسِ الرديئةِ بريقُ المالِ، وسُهولَةُ نَيْلِه، تتهاوى حصونُ المروءةِ، ويتداعى بنيان الأمانةِ، إن لم يَقُمُ في النفسِ وَرَعٌ صادِقٌ ومراقبةٌ وتقوى.. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} بارك الله لي ولكم..
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين.. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين وسلم تسليما.. أما بعد: فاتقوا الله لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: إن استحلالَ الأموالِ العامةِ والخاصةِ للمسلمينَ بأدنى الحِيَل.. والمشاركةِ في العدوان عليها، مِن أعظمِ ضروبِ الفسادِ في الأرض، أرسلَ الله شُعيباً عليه السلامُ إلى قَومٍ فشا فيهم الفسادُ الاقتصادي، إذ شاعَ فيهم التطفيفُ في المكيالِ الميزان، فَوَعَظَهُم شُعيبُ وَحَذَّرَهُم وقال : {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} فاستكبرَ أكثَرُهُم وأعرضوا.. وقالوا ساخرين.. {..يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يا شُعيبُ دَعْكَ في عبادتكَ صلاتِكَ.. ولا تَتجاوزْ إلى تبصيرنا في شؤونِ أموالنا، فنحنُ أدرى بها وأعلم، مَنْطقُ مَن بات وأصبح وأمسى اليومَ يدعو ويُرَدِّد.. الدينُ للهِ والوطنُ للجميع، الدينُ لا شأن له في شؤون الحياة، والله قد قال وقوله الحق: {ألا لله الدين الخالص} {ولله ملك السموات والأرض} {إن الحكم إلا لله} فكلُّ أمرٍ في حياةِ الناسِ فهو خاضعٌ لحكم الله وشرعه.. بهذا تَصلُحُ الحياةُ وينتفي خَبَثُها.
ولما أصَرَّ قومُ شعيبٍ على كفرِهم إعراضهم، وأصروا على بغيهم وفسادِهم، قال الله : {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}
عباد الله : وإن مِما أوجَبَهُ الله على كُلِّ مسلمٍ.. أن ينصح للمسلمين، وأن يَصدُقَ في حفظ حقوقِهم، وأن يُحبَّ لهم ما يحبُه لنفسه، وأن يُنكِرَ المُنكرِ ما استطاع، وأن لا يَكُونَ عوناً للمفسدِ على إفسادِه. ولا للمعتدي على عدوانِه، وأن يكشِفَ المفسدِينَ وأن يظهِرَ أمرَهم. فقد قال الله في كتابِه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
اللهم احفظ علينا ديننا..
المرفقات
1614545314_والله لا يحب الفساد 26 ــ 4 ــ 1442هـ.doc