وَاصْبِر نَفْسَك

تركي بن عبدالله الميمان
1445/01/29 - 2023/08/16 13:51PM

 
وَاصْبِرْ نَفْسَك!

الخُطْبَةُ الأُوْلَى

إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَمَّا بَعْد: فَأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، فَالتَّقْوَى تَطْرُدُ الأَحْزَانَ عَن الأَرْوَاحِ، وَتَنْقُلُهَا إلى بَلَادِ الأَفْرَاحِ! ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

عِبَادَ الله: إِنَّها آيَةٌ وَاحِدَةٌ، جَمَعَتْ قَانُونَ المُصَاحَبَةِ وَالمُجَانَبَةِ، وَالعُزْلَةِ والمُخَالَطَةِ؛ إِنَّهَا آيَةُ الكَهْفِ! يقول البِقَاعِي: (مَنْ أَرَادَقَانُوْنًا عَظِيمًا لِمَنْ يُصَاحِب وَمَنْيُجَانِب؛ فَعَلَيْهِبِآيَةِ الكَهْفِ:﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّيُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾).

فِي هَذِهِ الآيَةِ: يَأْمُرُ Uنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَحْبِسَ نَفْسَهُ مَعَ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾: أَيْ في أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِه.قال المُفَسِّرُونَ: (الغَدَاةُ: اسْمُ الوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ الفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالعَشِيُّ: هو المَسَاءُ. وَالمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يَدْعُوْنَ اللهَ سَائِرَ اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ).

﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾: وَصَفَهُمُ اللهُ بِكَثْرَةِالعِبَادَةِ وَالإِخْلَاصِ فِيْهَا، فَهُمْ يُرِيْدُونَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَة، لا عَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا الفَانِيَة!

وَمِنْ فَوَائِدِ الآيَةِ: الأَمْرُ بِـصُحْبَةِ الأَخْيَار، وَمُجَاهَدَةُ النَّفْسِ على صُحْبَتِهِمْ (وَلَو كَانُوا فُقَرَاءَ ضُعَفَاء)؛ فَإِنَّ في صُحْبَتِهِمْ مِنَالفَوَائِدِ مَا لا يُحْصَى!قال الفُضَيْلُ: (مَنْ أَرَادَعِزَّ الآخِرَةِ؛ فَلْيَكُنْ مَجْلِسُهُ مَعَ المَسَاكِيْنِ).

وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: في فُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ، لَمَّا طَلَبَ صَنَادِيدُ الكُفَّارِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يَطْرُدَهُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَأَنْ يُجَالِسَهُمْ بِدُونِ حُضُورِ أُولَئِكَ الفُقَرَاءِ؛ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ،وَازْدِرَاءً بِهِمْ! حَتَّى قَال بَعُضُهُمْ: (إِنَّكَ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْرِ المَجْلِسِ، وَنَحَّيْتَ عَنَّا هَؤُلَاءِ؛ جَلَسْنَا إِلَيْكَ،وَأَخَذْنَا عَنْكَ!)؛ فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَبِّرَ نَفْسَهُ فِي الجُلُوسِ مَعَ الصَّالِحِيْنَ. قال ابنُعاشُور: (هَذَا تَعْرِيضٌ بِحَمَاقَةِ سَادَةِ المُشْرِكِينَ: الَّذِينَ جَعَلُوا هَمَّهُمْ وَعِنَايَتَهُمْ بِالأُمُورِ الظَّاهِرَةِ،وَأَهْمَلُوا الِاعْتِبَارَ بِالحَقَائِقِ؛ فَاسْتَكْبَرُوا عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الفَضْلِ وَالعُقُولِ الرَّاجِحَةِ، وَالقُلُوبِ النَّيِّرَةِ، وافْتَخَرُوا بِجَاهِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،وَاحْتَقَرُوا الفُقَرَاءَ!).

﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: أَيْ لَا تَصْرِفْ عَيْنَاكَ عَنْ هَؤُلَاءِالصَّالِحِيْنَ (وَلَوْ كَانُوا مِنَ الفُقَرَاءِالمُسْتَضْعَفِيْنَ)؛ فَإِنَّ التَّطَلُّعَ إلى الأَغْنِياءِالمُتْرَفِيْنَ، سَبَبٌ لِلْتَّعَلُّقِ بِالدُّنيا،وَالاِفْتِتَانِ بِهَا! ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾.

وَمِنْ فَوَائِدِ الآيَةِ: أَنَّ مَبْدَأَ المُصَاحَبَةِ، وَمِعْيَارَ المُفَاضَلَةِ؛ يَنْبَغِي أَنْ يَقُوْمَ عَلَى تَقْرِيْبِ أَهْلِ التَّقْوَى(مَهْمَا بَلَغُوا مِنَ الضَّعْفِ وَالمَسْكَنَةِ!).

قال ﷺ: (لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ).

وَمِنْ قِلَّةِ العَقْلِ، وَغَفْلَةِ القَلْبِ: أَنْ تَكُوْنَ الصَّدَاقَةُ مُرْتَبِطَةً بِالمَظَاهِرِ والشَّكْلِيَّات؛فَإِنَّ (النَّجَاحَ والفَلَاحَ)لَيْسَ بِكَثْرَةِ المَالِ، أو بِشَرَفِ النَّسَبِ، أو بِجَمَالِ الجَسَدِ، أو بِقُوَّةِالنُّفُوْذِ، أو بِكَثْرَةِ الاَتْبَاع! فَفِي الحَدِيْثِ: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ).

وَمِنْ فَوَائِدِ الآيَةِ: الثَّنَاُءُ العَاطِرُ عَلَى المُحَافِظِيْنَ على الجَمَاعَةِ في المَسَاجِدِ، وَالصَّبْرُ عَلى مُلَازَمَتِهَا مع المُصَلِّيْنَ، لا سِيَّمَا في صَلَاةِ الفَجْرِ والعَصْرِ!

قال المُفَسِّرُونَ-في قَوْلِهِ تَعَالى: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾-: (هُمالمُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الجَمَاعَةِ. والغَدَاةُوَالعَشِيُّ: هُمَا صَلَاةُ الصُّبْحِ والعَصْرِ) .

وَمِنْ فَوَائِدِ الآيَةِ: أَنَّ أَكْثَرَ أَتْبَاعِ الحَقِّ وَالرِّسَالَاتِ؛ هُم الضُّعَفَاءُ والمُسَاكِين؛ لِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِيْنَ يَتَوَاضَعُونَ لِلْحَقِّ، مِمَّنْ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْه! كما قال تعالى عَنْ قَوْمِ نُوْحٍ u: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾. قالَ ابْنُ رَجَب: (مَحَبَّةُالمَسَاكِيْنِ: تُوْجِبُ إِخْلَاصَ العَمَلِ للهِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُمْ في الدُّنْيَا لا يُرْجَى غَالِبًا، كما أَنَّمُجَالَسَتَهُمْ تُزِيْلُ الكِبْرَ، فَالمُتَكَبِّرُ لا يَرْضَى مُجَالَسَةَ المَسَاكِينِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لا يَشْهَدُ الصَّلَاةَ في جَمَاعَةٍ؛خَشْيَةَ أَنْ تُزَاحِمَهُ المَسَاكِيْنُ في الصَّفِّ! وَكَمَا رَفَعَ اللهُ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ في الدُّنْيا، فَكَذِلْكَ يَرْفَعُهَا في الآخِرَةِ بِالعِلْمِ وَالإِيْمَانِ!).قال U: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

عِبَادَ الله: مَنْ تَرَكَ الصُّحْبَةَ الصَّالِحَةَ، وَتَعَلَّقَ بِأَصْحَابِ الدُّنيا الزَّائِلَةِ، وَالثَّرْوَةِ الزَّائِفَةِ؛ وَقَعَ في الغَفْلَةِ عَن الآخِرَةِ؛ فَضَاعَتْ أَعْمَارُهُ، وَغَابَتْ أَهْدَافُهُ،وَانْفَرَطَ أَمْرُهُ، وَتَشَتَّتَ قَلْبُهُ، وَنُزِعَتْ البَرَكَةُ مِنْ وَقْتِهِ! ولهذا قال ﷻ: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾:أَيْ أنَّ أَعْمَالَهُ وَأَفْعَالَهُ:سَفَهٌ وَتَفْرِيْطٌ وَضَيَاع!

وَمِنْ فَوَائِدِ الآيَةِ: أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُصْحَبَ وَيُطَاع: هُوَ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ، وَخَالَفَ هَوَاه! قال ابْنُ القَيِّم: (مَنْ غَفَلَ عَنْذِكْرِ رَبِّهِ: انْفَرَطَ عَلَيْهِ أمْرُهْ وَقَلْبُه، وَلَمْ يلْتَفِتْ إِلَى مَصَالِحهِ! وَقَدْ نَهَى اللهُ عَنْ طَاعَةِ مَنْ جَمَعَهَذِهِ الصِفَاتِ؛فَيَنْبَغِي لِلْرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ في قُدْوَتِهِ:فَإِنْ وَجَدَهُ كَذَلِكَ:فَلْيَبْعُدْ مِنْه، وَإِنْ وَجَدَهُ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللهِ، وَاتِّبَاعُ السُنَّة:فَلْيَسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ!).

وَمِنْ فَوَائِدِ الآيَةِ:أَهَمِّيَّةُ ذِكْرِ اللهِ بِالقَلْبِوَاللِّسَانِ، وَأَنَّ غَفْلَةَالإِنْسَانِ عَنْ اسْتِحْضَارِ الذِّكْر؛ يَنْزِعُ البَرَكَةَ مِن الأَعْمَالِ وَالأَوقَاتِ؛فَتَمْضِي الأَعْمَارُ بِلَاشَيءٍ يُذْكَر! يَقُوْلُ ابْنُ عُثَيْمِيْن: (إِذَا رَأَيْتَ وَقْتَكَ يَمْضِي، وعُمُرَكَ يَذْهَبُ، وَأَنْتَ لَمْ تُنْتِجْ شَيئًا مُفِيْدًا ولا نَافِعًا، وَلَمْ تَجِدْ بَرَكَةً في الوَقتِ؛ فَاحْذَرْ أَنْ يَكُوْنَ أَدْرَكَكَ قَوْلُهُتَعَالى: ﴿ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلنا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا﴾).

*******

* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.

* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.

* * * *

d قَنَاةِ الخُطَبِ الوَجِيْزَةa

¨https://t.me/alkhutab©

* * * *

 

 

 

المرفقات

1692183101_وَاصْبِرْ نَفْسَكَ.docx

1692183103_وَاصْبِرْ نَفْسَكَ.pdf

المشاهدات 1359 | التعليقات 0