هموم وهمم في العشر
أحمد عبدالعزيز الشاوي
الحمد لله ذي الفضل والإحسان والتكرم والامتنان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له هو الرحيم الرحمن واشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الإنس والجان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما
أما بعد عليك بتقوى الله فألزمها تفز إن التقي هو البهي الأهيب واعمل لطاعته تنل منه الرضا إن المطيع لربه لمقرب
إذا كان في الأمة تافهون هممهم لاتتجاوز بطونهم ، واهتماماتهم تكمن في شهواتهم وملذاتهم ودموعهم لاتسيح إلا على مدرج أو من وراء شاشة ـ وغضبهم وانفعالهم ومشاعرهم لاتظهر إلا مع فوز أو خسارة لفريق ، لايندمون إلا لفراق لذتهم ولايتحسرون إلا لفوات شهواتهم رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهم عن الآخرة هم غافلون .. فإن في الأمة رجالا سمت نفوسهم وعلت هممهم وارتقت أهدافهم وغلت غايتهم فهم يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون
هؤلاء العالون في هممهم يجودون بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايتهم وتحقيق بغيتهم لأنهم يعلمون أن المكارم منوطة بالمكاره وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لاتنال إلا بحظ من المشقة ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب ، ولذا فإن سلعة الله غالية وسلعة الله الجنة وقد حفت بالمكاره
أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لايدرك بالنعيم وأن من آثر الراحة فاتته الراحة وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون اللذة والفرحة ، فلا فرحة لمن لاهم له ، ولا لذة لمن لاصبرله ، ولا نعيم لمن لاشقاء له ، ولا راحة لمن لاتعب له ، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا ، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد ، وكل مافيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة والله المستعان
أولئك علت هممهم حتى في أحزانهم وندمهم وحسراتهم فهم يتحسرون على ساعة مرت بهم في الدنيا لا لأنهم عصوا الله فيها وإنما لأنهم لم يعمروها بذكر الله عز وجل وفي الحديث ( ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها
حدثتنا الأثار أن ابن عمر رضي الله عنهما بلغه أن من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها كان له قيراطان فتحسر على جنازات لم يشهدها وعبر عن حزنه بأن كان يقلب حثى بيده فضرب بها الأرض وقال ( لقد فرطنا في قراريط كثيرة )
وحدثتنا الآثار أن سيف الله يتحسر أن يموت على فراشه بعد سنوات طويلة من الجهاد في سبيل الله قائلا (قد شهدت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء
وحدثتنا الآثار أن عامر بن قيس لما أتاه الموت جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وعلى قيام ليالي الشتاء
وحدثنا القرآن أن رجالا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم لالرحلة ترفيهية ولا لنزهة برية ولا لمهمة دنيوية وإنما ليبذلوا أرواحهم جهادا في سبيل الله وفداء لدين الله فاعتذر إليهم بأنه لايجد فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ماينفقون
وذكر الإمام الذهبي رحمه الله عن محمد المبارك الصوري أنه قال : رأيت سعيد بن عبدالعزيز إذا فاتته صلاة في جماعة، بكى.
وقال إبراهيم بن أدهمَ: دخَلْنا على عابدٍ مريض، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: ما اغبرَّت في سبيل الله!
حدثتنا الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الصدقة فتصدق من تصدق وأما عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فلم يجد فما كان منه إلا أن يهب إلى بيته، فَيُصَلِّي مِنْ لَيْلَتِهِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْكِي، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ، وَرَغَّبْتَ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ، وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلِمَةٍ أَصَابَنِي بِهَا فِي مَالٍ، أَوْ جَسَدٍ، أَوْ عِرْضٍ، ثُمَّ أَصْبَحَ مَعَ النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟»، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ؟ فَلْيَقُمْ»، فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - : «أَبْشِرْ؛ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلةِ
هكذا كان أصحاب الهمم العالية في ندمهم وحزنهم .. هكذا كانت همومهم وهممهم ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا
مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ، جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ.
حقيقة يعلنها المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهكذا يجب أن تكون الأمة التي ارتضت الله ربا والإسلام دينا ومحمدا نبيا ورسولا
أقول هذا القول ...
الخطبة الثانية أما بعد
فياأصحاب الهمم العالية ، وياطلاب الجنة الغالية .. هاقد أظلت منحة من الكريم المنان لعباد الرحمن الذين يقولون بأفعالهم وأقوالهم ( ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ، والذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون
إن ربنا لطيف بعباده وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم
علم ضعفنا فرحمنا، وعلم تقصيرنا وسقوطنا أمام بريق الشهوات الخادع ففتح لنا أبواب الخير ويسرها، وجعل لنا مابين حين وحين فرصة للعودة إليه وجعل العبادة جنة دانية ظلالها وذللت قطوفها تذليلا
حينما يسرف الناس ويبعد العباد عن رب العباد يأتي رمضان ليزداد الذين آمنوا إيمانا ، ويستعتب المذنبون ويعود المقصرون المفرطون ولايهلك على الله إلا هالك ، فإذا ماانقضى رمضان وعاد الناس إلى غفلتهم تشرق الأرض بنور من ربها وتجيء فرصة أخرى ومنحة عظمى ممن يعلم السر وأخفى يعرضها رسوله صلى الله عليه وسلم عرضا مغريا لكي تقبل النفوس على العبادة وتسابق إلى الحسنى وزيادة.
حيث يقول: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء
إنها رحمة من الله وفضل ليكون عونا للمسلم على تجديد النشاط وزيادة الأجر والقرب من الله تعالى، ونظرة في واقع الكثير تنبئك عن جهل كبير بفضائل الأوقات فما أكثر الغافلين عن اغتنامها..فأي فضل أعظم من أن نعمل قليلا لنجازى عليه خيرا كثيرا، وأي تكرم أجل وأسمى من أن نبذل يسيرا ونتقاضى أجرا كبيرا (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }
فيامن كنتم في رمضان تعمرون المساجد بالذكر وتلاوة القرآن ، قد حلت عليكم ايام هي أفضل وأزكى فمالكم لاتتنافسون ..
يامن كنتم في رمضان تسارعون للخيرات وتبذلون الصدقات .. إنها اليوم أفضل من تلك الأيام فمالكم لاتبذلون ولا تسارعون
مؤلم أن تدخل العشر وتخرج دون تغيير في تعاملنا مع الله وعبادته .. مؤلم أن تكون العشر كغيرها .. مؤلم أن يتخذها البعض موسما للسفر للخارج حيث لايسلم الإنسان غالبا من ذنوب السماع والنظر فهل هؤلاء منتهون
العمل الصالح دائرة واسعة فكل عمل أو قول قصدت به وجه الله واتبعت فيه سنة رسول الله فهو عمل صالح فمن من كان من أهل الصيام فليصم ، ومن وفق للذكر والقرآن فليكثر ومن كان من أهل الصدقة فليبذل وإطعام الطعام وإفشاء السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وصلة الأرحام والتزاور في الله وإكرام الجار وإماطة الأذى وبذل الخير للغير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتفريج الكربات وقضاء الحاجات وحفظ اللسان .. كلها صور للعمل الصالح ، والعبادات جنة وارفة الظلال مفتوحة لكل من يريد الجنة ونعيمها وأفضل المؤمنين إيمانا من أخذ من كل غنيمة بسهم .. قال صلى الله عليه وسلم : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال ابوبكر : أنا ، قال : من أطعم منكم اليوم مسكينا ؟ قال ابوبكر : أنا ، قال : من عاد منكم اليوم مريضا ؟ قال أبوبكر : أنا ، قال : من شهد منكم اليوم جنازة ؟ قال أبوبكر : أنا ، قال : مااجتمعن في مسلم في يوم إلا دخل الجنة
لايحقرن صائم مفطرا ، ولايثربن عامل على عامل ، ولايقلل منفق من صوم صائم أو ذكر ذاكر فلكل وجهة هو موليها وكل يعمل على شاكلته ، وكم من مسلم دخل الجنة بصدقة ، وآخر نجا من النار بركعة في جوف الليل ، وثالث ارتفع عند الله درجة بكلمة طيبة ، ولاتدري نفس أي عمل سيرفعها أو ينفعها
والأمر الأهم ألا تنقضي العشر وقد ملئت خزائنك بالتفاهات وحوت منكرا من القول وزورا ، وخلت من عمل صالح ثمرته رضا الله وجنته .. وتذكروا يوم الحسرة فشعاره ( ياحسرتى على مافرطت في جنب الله )
ولمن أراد الحج : مع الوصية بتقوى الله والالتزام بهدي الشريعة في أداء الحج .. لاتجعلوا من حجكم سببا في عنائكم وتعبكم حينما تتساهلون بالوقاية وتتجاهلون التوصيات .. فالتزموا بتوصيات المسؤولين في الحفاظ على صحتكم وفعل الأسباب التي تقيكم بإذن الله من الإرهاق ومضاعفاته وتجنب مايؤدي للتعب والعناء من تعرض للشمس ومزاحمة وتدافع ومقاصد الشريعة تؤكد أن لبدنك عليك حقا
والله المسؤول أن يمن علينا بالتوفيق للعمل الصالح وأن يعيننا ويتقبل منا.
هذا وصلوا وسلموا على خير نبي ..
المرفقات
1717648772_هموم وهمم في العشر.doc