نعمة البركة 6-2-1444

محمد آل مداوي
1444/02/05 - 2022/09/01 10:57AM

الحمدُ لله، تباركَ سُبْحَانهُ في ذاتِه، وَبَاركَ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِه، لا يُوفِي قَدْرَهُ بَشَرٌ ولا يَقُومُ بحقِّه، ولا يَنْفَكُّ مَخلُوقٌ عن مُلْكِهِ ورِقِّه، ولا يَسْتَغنِي أَحَدٌ عن جُودِه ورِزقِه، هو الأولُ سُبحَانَهُ في هذا الوُجود، وله وحدَهُ القِيامُ والسُّجُود، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، هو سُبْحَانَهُ الغَفُورُ الوَدُود، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صاحِبُ المَقامِ المحمود، والحَوضِ المَورود، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أمَّا بَعد: فَأُوصِي نَفْسِي وإيَّاكُم بتقوَى اللهِ عزَّ وجل، اتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، هو سُبحَانَهُ مَالِكُ المُلْك، مُدَبِّرُ الأمر، رازِقُ الخَلْق، وكلُّ ذلكَ مِنْ بَرَكاتِه سُبحَانهُ على عِبَادِه: (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ).

عِبادَ الله: مِنْحَةٌ رَفِيعَة، ونِعْمَةٌ عَظِيمَة، يَحْصُلُ بها لِلمًؤمِن: النَّمَاءُ والزِّيَادَة، والوَفْرَةُ والسَّعَادة، ما كَانَتْ في صَغيرٍ إلا كبَّرَتْهُ، ولا في قَليلٍ إلاَّ كثَّرَتْهُ، ولا في كَثيرٍ إلا نمَّتْهُ وأبْقَتْه، هي مِنَّةٌ مِنَ اللهِ على مَنْ شاءَ مِنْ عِبَادِه. إذا أعطاهَا اللهُ عبدًا: ذاقَ الهناءَ في مَعَاشِهِ ومَعَادِه، والسَّعادةَ في حَالِهِ ومَآلِه.. إنَّها: نِعمَةُ البَـرَكَة.. البَـرَكَة: التي يَحْصُلُ بها: ثُبُوتُ النِّعَم، ودَوَامُها واستِقرارُها، ونَمَاؤها وزِيَادَتُها..

إذا حَلَّتِ البركةُ في شَيءٍ: كَثُرَ ما يأتي مَعَهُ مِنَ الخير، وما يَنْشَأُ عنهُ مِنَ البِر، فإذا حَلَّتِ البركةُ في وَقتِ المؤمِنِ أو عُمُرِه: عَمِلَ فيهِ مِمَّا ينفَعُه؛ أضْعافَ ما يَعْمَلُهُ غيرُه مِمَّا لا يَنْفَعُهُ أو فِيمَا يَضُرُّه.. وهكذا البركَةُ في العَمَل، والبركةُ في المَال، والبركةُ في العِلم، والبركةُ في الزَّوجِ أو الزَّوجَةِ والأبناء.

فالبركةُ كلُّها مِنَ الله؛ والرَّبُّ جَلَّ وعَلا هو الذي تبَارَكَ وَحْدَه، وكلُّ ما يُنْسَبُ إليهِ مُبارَكٌ، فكَلامُه مُبارَك، ورَسُولُه مُبارَك، وعَبدُه المُؤمنُ النَّافِعُ لِخَلْقِهِ مُبارَك،
وبَيتُه الحرَامُ بَيتٌ مُبارَك.. ولا يُقال: "تبارَك" في حَقِّ أَحَدٍ غيرِ الله، جَلَّ وعلا: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)، (تَبَارَكَ الذِيْ بِيَدِهِ المُلْكُ): تبَاركَ في ذَاتِه، وباركَ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِه، كما قالَ عَنْ عِيسَى عليهِ السلام: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ).

وما باركَ اللهُ الأعمالَ الصَّالحة: بمثلِ الإخلاصِ له، ومُتابعةِ نبيِّهِ r.. قال ابنُ القيم رحمه الله: "كلُّ شَيءٍ لا يكونُ لله: فبركتُه مَنزوعَةٌ؛ فإنَّ اللهَ تعالى هو الذي تباركَ وحدَه، والبركةُ كلُّها منه". وفي الأثر الإلهي: "يَقولُ الربُّ تبارَكَ وتعالى: إنِّي إذا أُطِعْتُ رَضِيتُ، وإذا رَضِيتُ بَارَكْتُ، وليس لِبَرَكَتي نِهَاية" أخرجَهُ الإمامُ أحمد بسَنَدٍ صحيحٍ.

فالإيمانُ بالله، وتَقْوَاهُ جَلَّ في عُلاه، والعمَلُ الصَّالحُ الذي يَرضَاه؛ سَبَبُ البركةِ والرِّزق، والطُّمأنينةِ والرِّضا: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).. والذُّنُوبُ والمعاصي والسَّيِّئات: تمحَقُ البركةَ، وتُنغِّصُ العيشَ، وتُضيِّقُ الأرزاق: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).

بارَكَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعنا بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكرِ الحَكيم، أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولِسَائرِ المُسلمين والمسلمات من كُلِّ ذنبٍ فاستغفِروه، وتُوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية 

 

الْحَمْدُ لِلَّه، شَرَعَ الدِّينَ وَيَسَّرَهُ، وَوَعَدَ بِالثَّوَابِ وَكَثَّرَهُ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ فَقَدَّرَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعلى آلِهِ وصحبِه، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بعد: فمِنْ أعظَمِ أسبَابِ البركَة: صَلاحُ ما في القُلُوب، وما فِيهَا مِنَ النَّوَايا الصَّالحة، وإرَادَةِ الصِّدْقِ والخير، فعلى نِيَّاتِكُمْ تُرْزَقُون.

عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ t عنِ النَّبيِّ r قال: (البَيِّعَانِ بالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فإنْ صَدَقَا وبَيَّنا؛ بُورِكَ لَهُمَا في بَيعِهِما، وإنْ كَذَبَا وكَتَمَا؛ مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيعِهِما) متفقٌ عليه. وعنهُ t قال: سَألتُ رسولَ اللهِ r فأعطَاني، ثم سَألتُهُ فأعطَاني، ثم سَألتُهُ فأعطَاني، ثم قال: (يا حَكِيم، إنَّ هذا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَن أخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ [أيْ: دُونَ شُحٍّ أو طَمَع؛] بُورِكَ لَهُ فيه، ومَنْ أخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ؛ لم يُبَارَكْ لَهُ فيه، كالذي يَأكُلُ ولا يَشْبَع) متفقٌ عليه.

ومِنْ أعظَمِ أسبَابِ البركةِ عبادَ الله: صِلَةُ الرَّحِم: (مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِه، ويُنْسَأَ له في أَثَرِه؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).

والتَّآلُفُ والاجْتِمَاع؛ مَدْعَاةٌ لِحُصُولِ البركةِ وحُلُولِها، قيلَ للنَّبيِّ r: يا رَسُولَ اللَّه، إنَّا نَأْكُلُ ولَا نَشْبَعُ. قال: (فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ وأنتُمْ مُتَفَرِّقُون؟) قالُوا: نعم. قال: (فَاجْتَمِعُوا علَى طَعَامِكُم، واذْكُرُوا اسمَ اللَّهِ عَزَّ وجَلّ: يُبَارِكْ لَكُم).

ومِنْ أسبَابِ البركةِ أيضًا: النَّفَقَاتُ والصَّدَقات، وتَفْرِيجُ الكُرُبَات، والسَّعْيُ في قَضَاءِ الحَاجَات؛ فمَنْ يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللهُ لَهُ في الدُّنيا والآخِرَة، ومَنْ فرَّجَ كُربَةَ مَكْرُوب؛ فرَّجَ اللهُ كُربَتَهُ في الدُّنيا والآخِرَة، ومَا مِنْ يَومٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فيه؛ إلَّا ومَلَكَانِ يَنْزِلَان، يقولُ أَحَدُهما: (اللهمَّ أَعْطِ مُنفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللهمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) متفقٌ عليه.

ومِنْ أسبَابِ البركةِ في الأرزَاق: دُعَاءُ اللهِ جَلَّ وعَلا، وسُؤَالُه، وصِدقُ الالتِجَاءِ إليه، فإنْ ضَاقَ عليكَ رِزقُك، وعَظُمَ عليكَ هَمُّكَ وغَمُّك، وكَثُرَ عليكَ دَيْنُك؛ فاقْرَعْ بابَ الكريم؛ الذي لا يَخِيبُ قَارِعُه، واسْأَلِ الكريمَ الجوَاد، فمَا وَقَفَ أحَدٌ بِبَابِهِ فنَحَّاهُ، ولا رَجَاهُ عَبدٌ فخيَّبَهُ في دُعَائهِ ورَجَاه.

ألَا فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله: لازِمُوا التُّقَى والصَّلاحِ، وتأمَّلُوا أثرَ ذلكَ في صِحَّةِ قُلُوبِكُم، وطُمأنِينَةِ نُفوسِكُم، ورَغَدِ عَيْشِكُم، واجْتِمَاعِ أَمْرِكُم.. اطلُبُوا البركةَ مِنَ الله، وخُذوا بأسبَابِهَا: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

اللهُمَّ يا حيُّ يا قيومُ يا ذا الجلالِ والإكرام: بَارِكْ لَنَا فيمَا أعطيتْ، بَارِكْ لنا فِي أقوَاتِنا وأرزَاقِنا، وأعمَارِنا وأعمَالِنا، وبَارِكْ لنا في أزوَاجِنا وذُرِّيَّاتِنا، بَارِكْ لنا في أسمَاعِنا وأبصَارِنا وقُوَّاتِنا، واجعَلْها الوَارِثَ مِنَّا، واجعَلْنا مُبَاركينَ أينَما كُنَّا، اللهمَّ إنَّا نَسأَلُكَ أنْ تحفَظَنا بحِفْظِك، وأنْ تَكْلَأَنا برِعَايَتِك، يا أرحَمَ الرَّاحِمين.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين.. اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وآمِّنَّا اللهُمَّ في دُورِنا، وأصلحْ أئمَّتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّدْ بالحقِّ والتوفيق: إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهُمَّ وفِّقْ خادمَ الحرمينِ الشريفينِ ووليَّ عَهدِهِ لهُدَاك، واجعلْ أعمالَهُما في رِضَاك يا ربَّ العالمين.

اللهمَّ اشرحْ صدُورَنا، ويسِّرْ أمورَنا، واقضِ حاجاتِنا، وأصْلِحْ نيَّاتِنا وذُرِّيَّاتِنا، وبلِّغْنا فيما يُرْضِيكَ آمالنا، واحفَظِ اللهُمَّ جُنُودَنا، اللهم احفظهم بحفظك التام، واكلأهُم بعينِكَ التي لا تنام، يا ذا الجلال والإكرام.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. 

وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.

المرفقات

1662019060_نعمة البركة.docx

1662019060_نعمة البركة6-2-1444.pdf

1662019060_نعمة البركة -نسخة الجوال.pdf

المشاهدات 1462 | التعليقات 0