نسائمُ العشر
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الاولى / نسائمُ العشر 21/ 9/ 1443ه
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفضله وكرمه تزداد الحسنات وتغفر الزلات، أحمده - سبحانه - على ما أولى وهدى، وأشكره على ما وهب وأعطى، لا إله إلا هو العلي الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله ربكم واشكروا له: ((ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً))
أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قال قال النَّبِيِّ " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ "
أي أمنية أن ينال الانسان ظل العرش في يوم تدنوا فيه الشمس من الانسان قدر ميل فبلغ بعضهم العرق إلى أنصف قدميه ومنهم من يبلغ إلى حقويه ومنهم إلى أذنية ومنهم من يلجمه العرق إلجاما ..
لا ينجي من هول هذا الموقف مناصب الدنيا ولا الرتع في اسواقها والتباهي في ملذاتها ولا التعلق في شبكاتها ومقاطعها وعدم الإغضاء عن رسائل تواصلها، إنما ينجي منها ويصطفى في ظلٍ ظليل في كنف ظل عرش الرحمن من علق قلبه في المساجد ، قائم ساجد ، تالي ذاكر ، داعٍ مستغفر يتلوا كلام ربه .. والاعتكاف في هذا العشر سنة النبي واعتكف أزواجه من بعده والاعتكاف قطع العلائق عن الدنيا والاقبال على الله..
في هذه الليالي والأيام يخلو قلب المؤمن فيدعوا ربه أو يقرأ آية أو يسمعها فيرق قلبه وتسبل دمع عينه فيراه ربه فيجازيه بظل عرشه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
تتفتح أمام المسلم قنوات الإنفاق ومشاريع البذل ، فتمتد يده بالصدقة والتحويل في وجوه الخير ، فيكافئه ربه بظل عرشه.
يتعرض القلب للشهوات وتعرض امام عينه مناظر الحرام فيغض بصره ويحجب عينه ويقول إني أخاف الله ، فيجازيه الله بظل عرشه.
تشتهر أندية ويتسابق الضعفاء للمحبة في سبيل الشيطان ، فيصطفي قلبان ويجتمع جسدان على كتاب الله ومن أجل ذات الله ، فلايفرق بينهما إلا الموت ، فيجازيهم ربهم بان يجمعهم في ظل عرشه.
لا غروا أن ترى شيخا قد شابت لحيته في عبادة الله وطاعته ، ولكن التحدي أن ترى شابا تتقاذفه امواج الفتن وتتعرض له المغريات وتنفتح له زينة الحياة الدنيا ، فيرفظها ويقبل على ربه ويعلق قلبه في عبادة الله . فيجازيه الله أن يظله بظل عرشه .
عباد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
كن كالصحابة في زهد وفي ورعٍ القوم هم، ما لهم في الناس أشباهُ
عُباد الصحابه شباب في مقتبل العمر .. ابن عمر ابن السابعة عشرة من عُمرِه يَقَول عنه النَّبِيُّ : «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ، بَعْدَ ذَلِكَ، لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا .
عبدالله بن عمرو بن العاص الشاب اليافع قال: والله لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، مَا عِشْتُ، فَقَالَ له رَسُولُ اللهِ : «فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» متفق عليه.
قومٌ إذا ذُكرَ الرحمنُ منْ وجلٍ ** لاَنُوا وَإِنْ شَهِدُوا يَوْمَ الْوَغَى صَعُبُوا
غُرُّ الوجوهِ مصاليتٌ إذا نزلوا ** عَنِ السُّرُوجِ مَحارِيْبَ التُّقَى رَكِبُوا
وكان إمامهم وقرة أعيننا محمد عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، أي تتشقق وتتورم من طول القيام ، أما في مثل هذه الليالي الفاظلات، فقالت عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»
وكان الصحابة والتابعين يصحبون أولادهم لقيام رمضان في العشر الأواخر ..
وإن من الغبن والخسران أن تنقضي الليالي الفاضلات تسوقا مشتريات.. والرحمات تنزل ومنادي الرحمن ينادي ياباغي الخير أقبل والجنان تزينت للطالبين ..
حرمان ان تجول الأبصار في أجهزة ومناظر أقلها أن تلهي عن تلاوة القرآن والذكر والاستغفار، وتقطع الوقت عن التقرب لذي الجلال والاكرام..
إنما هي أيام معدودات ، من حرم خيرها فهو المحروم .. ومن ضاقت عنه رحمة الله في فقد خسر خسرنا مبينا ..
أستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية : الحمد لله ذو المن والعطا يغفر الذنب ويجيب الدعاء ، وصلى الله وسلم على الرسول المجتبى وعلى أله وصحبه ومن اقتفى وسلم تسليما كثيرا أمّا بعد:.
فتعرضوا لربكم في هذه العشر الباقيات، فإن فيها ليلة مباركة ، يفرق فيها كل إمرٍ حكيم .. مباركة في كل شي، مباركة برزقها، مباركة بعطائها، مباركة بخيرها وما فيها من الرحمة والمغفرة . من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقد من ذنبه ، والصابرون على الطاعة فيها، والصابرون عن مايلهي عنها يوفى أجرهم بغير حساب .
كم على الظهر من حمل من الاوزار والآثام حري أن تُلقى في هذه الليالي والأيام .. كم في الصدر من آهات وحاجات، حريٌ أن تنفث في هذه الليالي والأيام ..كم أثقلت جيوب من ديون آن أن ترفع إلى من بيده الخزائن والأعطيات ..كم وكم نرجوا ونامل .. في هذه الايام والليالي الشريفات ترفع الأكف وتسبل الدموع ويلح على ذي الجلال والإكرام..
سلوا الله صلاح الأنفس والذرية والحفظ والستر من شر كل ذي شر والثبات حتى الممات .. سلوا الله كل شي من خيري الدنيا والآخرة ..
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ..
ما أرحم ربنا بنا يفتح لنا ليالٍ شريفات ليحط عنا الاوزار ويرفع لنا الدرجات وهو الغني عنا سبحانه ..
يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» قَالَ سَعِيدٌ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
اللهم وفقنا لما يرضيك وجنبنا سخطك وعقابك واعف عنا واغفر لنا وارحمنا وتقبل منا إنك انت السميع العبيم والبر الرحيم
المرفقات
1650556673_نسائم العشر.docx
1650556677_نسائمُ العشر.pdf