من أحكام الشتاء*
محمد محمد
من أحكامِ الشتاءِ-19-6-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أَمَّا بَعْدُ:
فَإنَّ المُؤمِنَ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فِكرَةٌ، وَفِي كُلِّ حَدَثٍ عِبرَةٌ، وَمِن ذَلِكَ مَا يَرى مِن تَقَلُّبِ الفُصُولِ والأَيَامِ، فَمِنْ حَرَارةٍ تَشوي الوُجُوهَ إلى بَردٍ يُكَّسِرُ العِظَامَ، قالَ اللهُ-تَعالى-: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)، فَتَعَالوا لِنَرى العِبرةَ والدُّروسَ مِنْ فَصلِ الشِّتَاءِ، فَهُوَ مَوسِمٌ مَليءٌ بِالمَواعظِ وطَاعَاتِ الأَتقِياءِ.
مِن طَاعَاتِ الشِّتَاءِ: النَّهَارُ فِيهِ قَصيرٌ، والصَّومُ يَسيرٌ، قَالَ الرسولُ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-: "الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ"، واللَّيلُ فِيهِ طَويلٌ، ولِلصَّالِحينَ فِيهِ قِيامٌ وتَرتيلٌ، بَكَى مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-عِندَ مَوتِهِ وَقَالَ: "إنـَّما أبْكي عَلَى ظَمَإِ الهَوَاجِرِ، وَقِيَامِ لَيلِ الشِّتَاءِ"، وهَكَذَا كَانُوا في الشِّتَاءِ مَا بَينَ صِيَامٍ وقِيَامٍ، وكَانُوا يَستَقبِلُونَهُ بِالفَرحِ والتَّرحِيبِ والإكرَامِ، يَقُولُ ابنُ مَسعُودٍ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "مَرحَبًا بِالشِّتَاءِ؛ تَنْزِلُ فيهِ البَرَكَةُ، وَيَطولُ فِيهِ اللَّيلُ لِلقِيَامِ، وَيَقْصُرُ فِيهِ النَّهَارُ لِلصِّيَامِ".
ومِن طَاعَاتِ الشِّتَاءِ: التي تُرفعُ بِهِا الدَّرَجَاتُ، وتـُمحَى الخَطيئَاتُ، إتـمَامُ الوُضوءِ مَع شِدَّةِ بُرودةِ المَاءِ، وَكَثَافَةِ مَلابِسِ الشِّتَاءِ وضِيقِها، قالَ-رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ".
ومِن الأَحَكَامِ التي يَحتَاجُهَا كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الشِّتَاءِ، لِكَثرَةِ ارتِدَاءِ الجَواربِ (الشَرَارِيبِ) بِسَبَبِ بُرودَةِ الأَجواءِ، هُو مَعرِفَةُ شُرُوطِ الـمَسْحِ عَليهَا في الطَّهَارةِ، وهَيَ:
1-أَن يَلبَسهُمَا بَعدَ طَهَارةِ وُضوُءٍ تَامَّةٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-لَمَّا أَرادَ الـمُغِيرَةُ بنُ شُعبَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-أَن يَنزِعَ خُفَّيهِ لِلوُضُوءِ، قَالَ: "دَعهُمَا فَإنِّي أَدْخَلتُهُمَا طَاهِرَتينِ"، فمسَحَ عَليهِمَا.
2-أَن يَكونَ الـمَسْحُ في الحَدَثِ الأَصغَرِ (ريحٍ أو بولٍ أو غائطٍ) وَلَيسَ فِي الحَدَثِ الأَكبَرِ كَالجَنَابةِ.
3-أَن يَكُونَ الـمَسْحُ في المُدَةِ المُحَدَّدَةِ وهِيَ: يَومٌ وَليلةٌ لِلمُقيمِ، وثَلاثَةُ أَيَّامٍ لِلمُسَافِرِ، تبدأُ مِنْ أولِ مسحٍ.
4-أَن يَكونَ الجَورَبُ (الشُرَّابُ) يُغطِي مَكَانَ الغَسلِ الـمفروضِ فِي الوُضُوءِ (القدمَ كلَّها إلى الكعبينِ)، ولِذَلِكَ لا يَجوزُ المَسحُ عَلى الجَواربِ (الشَرَارِيبِ) القَصيرةِ التي لا تُغطي الكَعبِينِ.
ومِن أَحَكَامِ الشِّتَاءِ فِي التَّعَاملِ مَعَ الرِّيحِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ".
ومِن أَحَكَامِ الشِّتَاءِ الوِقَائيَّةِ-بَإذنِ اللهِ-مِن الحَريقِ أو الـموتِ بالاختناقِ، هُو إطفَاءُ النَّارِ قَبلَ النَّومِ لأَنَّهَا عدوةُ الأحياءِ، احْتَرَقَ بَيْتٌ بالمَدِينَةِ علَى أهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بشَأْنِهِمُ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "إنَّ هذِه النَّارَ إنّـَما هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِـمْتُمْ فأطْفِئُوهَا عَنْكُمْ"، فَتَأَكَدُوا مِن إطفَائهَا وإخَراجِهَا مِن المَكانِ، فَإنَّه لا يَنفَعُ النَّدَمُ إذا فَاتَ الأوانُ.
مِن مَواعِظِ الشِّتَاءِ التي يَغفَلُ عَنهَا الكَثيرُ، هُو تَذَكُّرُ نَفَسِ النَارِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ"، فَالزَّمهَرِيرُ هُوَ شِدَّةُ البَردِ، قَالَ بَعضُ السَّلفِ: يَستَغيِثُ أَهلُ النَّارِ مِنَ الحَرِّ، فيُغاثُونَ بريحٍ بارِدةٍ، يَصدَعُ العِظامَ بَرْدُها، فيَسألُونَ الحَرَّ، فَنَعُوذُ ونعيذُ الـمسلمينَ باللهِ مِن حَرِّ جَهنَمَ وزَمهَرِيرِها.
أَستغفرُ اللهَ لي ولكم ولِلمسلِمينَ...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فمِن مَواعِظِ الشِّتَاءِ التي تُنَادي قُلوبَ الـمُؤمِنينَ، هُو تَذكِيرُنَا بإخوَانِنَا الفُقَراءِ والمَسَاكِينِ، وَأَعظُمُ الصَّدَقَاتِ مَا كَانَ في شِدَّةِ الحَاجَةِ، رأى رَجلٌ في الشَّامِ رؤيا عجيبةً في الـمَنامِ، فجهَّزَ لها متاعَه ودابتَه، ثُمَّ انطلقَ إلى الـمَدينةِ النَّبويةِ، يسيرُ الليلَ والنَّهارَ، ويقطعُ الفَيافيَ والقِفارَ، حتى إذا بَلغَ الـمَدينةَ قالَ للنَّاسِ: دُلُّوني على صفوانَ بنِ سُليمٍ، فقِيلَ له: وما حاجتُكَ بصفوانَ بنِ سُليمٍ؟ قالَ: رأيتُه في المنامِ وقد دَخلَ الجَنَّةَ، فقيلَ له: بأيِّ شيءٍ؟ قالَ: بقَميصٍ كَساهُ إنسانًا، فسُئلَ صَفوانُ-رحمَه اللهُ-عن قِصَّةِ القَميصِ، فقَالَ: "خرجتُ من المسجدِ في ليلةٍ بارِدةٍ فإذا رجُلٌ عُريانٌ، فنزعتُ قَميصي فكسوتُه."
وَفِي قَولِ اللهِ-عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، تَظهَرُ عَاطِفَةُ المُؤمنِ وَرَحمَتِهِ بِإخوانِهِ المؤمنينَ، فَإذا جَلَسَتَ أَنتَ وَأَبنَاؤُكَ عَلى مَائدةِ العَشَاءِ السَّاخنِ في اللَّيلةِ البَارِدَةِ، قَد آوَاكُم بَيتٌ دَافئٌ، وفِراشٌ نَاعمٌ، فَتَذكَّرْ أنَّ لَكَ إخوانًا أُخرِجُوا مِنْ بُيُوتِهم مقهورينَ، فَهُم نُزلاءُ الخِيَامِ سنينَ، لِبَاسُهم العَراءُ، ولِحافُهم السَّماءُ، فَرُّوا مِن مَوتِ السَّلاحِ والحروبِ، فقتلَهم البردُ في الملاجِئ والدُّروبِ، وَمِنهُم مَن هُو بينِنَا لا نَفطنُ لهُ، فهم بينَ بردِ الشِّتاءِ والجُوعِ، وبَينَ الأَحزانِ والدُّموعِ، يَنظرُ إلى زَوجَتِه وَأَبنَائهِ وَهُم يَشتَكُونَ، وَلا يَملِكُ إلا دُعَاءَ خَالقِ الكونِ.
اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ، وأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلالِ والإِكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ.
اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لرضاكَ، ونَصرِ دِينِكَ، وإعلاءِ كَلمتِكَ.
اللَّهُمَّ انصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.
اللَّهُمَّ الطفْ بنا وبالمسلمينَ على كُلِّ حالٍ، وبَلِّغْنا وإياهُم من الخيرِ والفرجِ والنصرِ منتهى الآمالِ.
اللَّهُمَّ أحسنْتَ خَلْقَنا فَحَسِّنْ أخلاقَنا.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا ولوالدِينا وأهلِنا والمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ، والهُدى والسَّدادَ، والبركةَ والتوفيقَ، وَصَلَاحَ الدِّينِ والدُنيا والآخرةِ.
اللَّهُمَّ يا شافي اِشْفِنا وأهلَنا والمسلمينَ والمسالِمين.
اللَّهُمَّ (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1734618167_من أحكامِ الشتاءِ-19-6-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1734618167_من أحكامِ الشتاءِ-19-6-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf