مَنازِلُكَ الأُولَى
راشد بن عبد الرحمن البداح
(راشد البداح – الزلفي) 16 ذو القَعدة 1445 هـ
الحَمْدُ للهِ، نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَنُثْنِيْ عَلَيْهِ الخَيْرَ كُلَّهُ، نَشْكُرُهُوَلَا نَكْفُرُهُ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُهُ، وأَشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلا هُوَ وَحْدَهُلا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عَبْدَ اللهِ: تَأَمَّلْ هَذَا اَلْمِثَالَ اَلْوَاقِعِيَّ: لَوْ أَنَّ شَخْصاً تَعَيَّنَ بِوَظِيفَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ بَلَدِهِ، وَلَا يَعْرِفُ فِيهَا أَحَدًا، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ سَتُنْقَلُ لِبَلَدِكَ بَعْدَسَنَةٍ، لِتَعِيشَ فِيهِ بَاقِيَ عُمُرِكَ، فَمَاذَا تَرَاهُ صَانِعًا وَمُدَّةُ اَلِانْتِقَالِ قَصِيْرَةٌ؟! فَهَلْ تَرَاهُ سَيُفَكِّرُ أَنْ يَمْلِكَ سَكَنًا فِي غَيْرِ بَلَدِهِ اَلْأَصْلِيِّ؟! بَلْ هَلْ سَيَسْتَأْجِرُ شِقَّةً غَالِيَةً، أَوْ يَضَعُ أَثَاثًا فَخْمًا؟! أَمِ العَقْلُ والحِكْمَةُ تَدْعُوْهُ؛ لِيَجْمَعَ مَالَهُ واسْتِثْمَارَهُ لِانْتِقَالِهِ لِبَلَدِهِ الأَصْلِيِّ؟!
هَذَا اَلْمِثَالُ اَلْوَاقِعِيُّ -أيُّهَا الإخْوَةُ- يَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا فِي هَذِهِ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا، فَبَلَدُ اَلْغُرْبَةِ كَأَنَّهَا اَلدُّنْيَا، وَبَلَدُكَ اَلْأَصْلِيُّ هِيَ دَارُ اَلْقَرَارِ فِي اَلْآخِرَةِ. (وَكَيْفَ لَا يَكُونُ اَلْعَبْدُ فِي هَذِهِ اَلدَّارِ غَرِيبًا، وَهُوَ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، لَا يَحُلُّ عَنْ رَاحِلَتِهِ إِلَّا بَيْنَ أَهْلِ اَلْقُبُورِ؟ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِي صُورَةِ قَاعِدٍ:
وَمَا هَذِهِ اَلْأَيَّـامُ إِلَّا مَرَاحِــلُ …يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إِلَى اَلْمَوْتِ قَاصِدُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا …مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرَ قَاعِدُ)()
فلا فِرَارَ من المَوْتِ، بَلْ (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْثُمَّ تَرُدُّونَ إِلَى عَالَمِ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئكُمْ بِمَا كُنْتُمْتَعْمَلُونَ).
وَإِنَّنَا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا غُرَبَاءُ، وَسَنَرْجِعُ بِرَحْمَةِ رَبِّنَا لِمَنْزِلِنَا اَلْأَصْلِيِّاَلْأَبَدِيِّ، نَعَمْ نَحْنُ اَلْآنَ مُسَافِرُونَ، وَسَنَحُطُّ رِحَالَنَا -بِفَضْلِ مَوْلانَا- فِيجَنَّاتِ عَدْنٍ، فَلِنَسْتَعِدَّ لِلرَّحِيلِ مِنْ دَارِ اَلْفَنَاءِ لِدَارِ اَلْبَقَاءِ:
وَإِنْ ضَاقَتِ اَلدُّنْيَا عَلَيْكَ بِأَسْرِهَا …وَلَمْ يَكُ فِيهَا مَنْزِلٌ لَكَ يُعْلَمُ
فَحَيَّ عَلَى جَنَّـــاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا …مَنَازِلُكَ اَلْأُولَى وَفِيهَا اَلْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ اَلْعَـدُوِّ فَهَلْ تُرَى …نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَـــــا وَنُسَلَّمُ()
فَاَللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا لِنَعُوْدَ لأَوْطَانِنَا، وارْحَمْ فِي اَلدُّنْيَا غُرْبَتَنَا، وَارْحَمْ فِياَلْقَبْرِ وَحْشَتَنَا، وَارْحَمْ مَوْقِفَنَا غَدًا بَيْنَ يَدَيْكَ.
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ اِسْتِحْضَارَ اَلْمَوْتِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ هُوَ اَلَّذِي يَدْفَعُ فِعْلاً لِلْعَمَلِ اَلصَّالِحِ اَلنَّافِعِ، وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الآيَةَ، فَإِنَّ اَللَّهَ -تَعَالَى- ذَكَرَ اَلصَّلَاةَ -وَهِيَ رَأْسُ اَلْعِبَادَاتِ- وأَنَّهُ لَا يُطِيقُهَا إِلَّا مِنْ يُوقِنُ بِالْمَوْتِ وَلِقَاءِ اَللَّهِ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ- عَنِ اَلصَّلَاةِ: (وَإِنَّهَا لِكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى اَلْخَاشِعِينَ*الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَتِ اَلصَّلَاةُ هَيِّنَةً مُيَسَّرَةً، لَمِنِ اِمْتَلَأَ قَلْبُهُ بِالْيَقِينِ بِلِقَاءِ اَللَّهِ.
وَالْمُؤْمِنُ اَلَّذِي اِمْتَلَأَ قَلْبُهُ بِالْيَقِينِ بِلَحْظَةِ اَلْقَبْرِ، يَتَحَرَّقُ عَلَى أَوْقَاتِ اَلِانْتِظَارِ وَالْمَسِيرِ وَالْجُلُوسِ اَلْعَابِرِ، أَنْ تَذْهَبَ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اَللَّهِ: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ).
أَيُّهَا اَلْمُوقِنِ بِلِقَاءِ اَللَّهِ: هَلْ تَعْلَمْ أَنَّ انْتِظَارَ اَلْمَوْتِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ اَلْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مِنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
وَفِي اَلْمُقَابِلِ تَرَى بَعْضَ اَلْغَافِلِينَ يَتَنَدَّرُونَ بِمَنْ يُكْثِرُ مِنْ ذِكْرِ اَلْمَوْتِ، وَيُسَمِّيْهَا بَعْضُهُمْ (عَقِيدَةُ اِنْتِظَارِ اَلْمَوْتِ) عَلَى سَبِيلِ اَلِاسْتِهَانَةِ وَالِانْتِقَاصِ، بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ رَبَّنَا يَدْعُونَا لِلتَّفَكُّرِ كَثِيرًا فِي فَجْأَةِ اَلْمَوْتَ فَيَقُولُ: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلْقُ اَللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجْلُهُمْ).
فَاَللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا اَلِاسْتِعْدَادَ بِالزَّادِ، لِلرِّحْلَةِ لِيَوْمِ اَلْمَعَادِ.
الحَمْدُ للهِ هَادِيْنَا، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى دَاعِيْنَا، أمَّا بَعْدُ: فَلَقَدْ ذَكَرَ اَلْمُفَسِّرُ اَلْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَحَدِ شُيُوخِهِ، وَابْنُ اَلْقِيَمِ عَنْ أَحَدِ اَلصَّادِقِينَ قِصَّةً عَجِيْبَةً: (لِحَفَّارِ قُبُورٍ، حَفَرَ ثَلَاثَةَ أَقْبُرٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا غَشِيَهُ اَلنُّعَاسُ، فَرَأَى فِيمَا يَرَى اَلنَّائِمُ مَلَكَيْنِ نَزَلا، فَوَقَفَا عَلَى أَحَدِ اَلْأَقْبُرِ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اُكْتُبْ فِرْسَخًا فِي فِرْسَخٍ (قُرَابَةَ خَمْسَةِ كِيلُوَّاتٍ). ثُمَّ وَقَفَاعَلَى اَلثَّانِي: فَقَالَ: اُكْتُبْ مِيلاً فِي مِيْلٍ (أَقَلَّ مِنْ كِيلُو). ثُمَّ وَقَفَا عَلَى اَلثَّالِثِ، فَقَالَ: اُكْتُبْ فِتْراً فِي فِتْرٍ (مِقْدَارَ مَا بَيْنَ اَلسَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ). ثُمَّ انْتَبَهَ اَلْحَفَّارُ، فَجِيءَ بِرَجُلٍ غَرِيبٍ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، فَدُفِنَ فِي اَلْقَبْرِ اَلْأَوَّلِ، ثُمَّ جِيءَ بِرَجُلِ آخَرَ، فَدُفِنَ فِي اَلْقَبْرِ اَلثَّانِي، ثُمَّ جِيءَ بِاِمْرَأَةٍ مُتْرَفَةٍ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ اَلْبَلَدِ، حَوْلَهَا نَاسٌ كَثِيرٌ، فَدُفِنَتْ فِي اَلْقَبْرِ اَلضَّيِّقِ، اَلَّذِي سَعَتُهُ فِتْرٌ فِي فِتْرٍ().
ألَا فَلِنَسْعَ لِنُوَسِّعَ قُبُورَنَا وَنَحْنُ فِي زَمَنِ اَلْإِمْهَالِ؛ لِنُوَسِّعْهَا بِمَزِيدِ اَلْأَعْمَالِ اَلصَّالِحَةِ، وِبَاسْثِمَارِ اَلْأَزْمَانِ اَلْفَاضِلَةِ، كَآخِرٍ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ، وَكَعَشْرِ ذِيْ اَلْحِجَّةِ اَلَّتِي اِقْتَرَبَتْ، وَكَالْحَجِّ لَمِنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.
فَاَللَّهُمَّ أَوْسِعْ لَنَا فِي قُبُورِنَا، وَفِي دُوْرِنَا، وَأَحْسِنْ قَرَارَنَا وَجِوَارَنَا.
اَللَّهُمَّ اِرْحَمْ فِي اَلدُّنْيَا غُرْبَتَنَا، وَارْحَمْ فِي اَلْقُبُورِ وَحْشَتَنَا، وَارْحَمْ مَوْقِفَنَا غَدًا بَيْنَ يَدَيْكَ.
اللهم ربَنا ارحمنا ووالدَيْنَا كما ربيَانا صغارًا، وأعنا على برِهِما أحياءً وأمواتًا.
اللهم ربَّنا أوزعْنا أن نشكرَ نعمتَكَ التي أنعمتَ علينا وعلى والدَينا، وأن نعملَ صالحاً ترضاهُ، وأدخلْنا برحمتِك في عبادِك الصالحينَ.
اللهم أعزَ الإسلامَ والمسلمينَ، وارحمِ المستضعفينَ من المسلمينَ.
اللهم امنحْ أهلَ غَزَّةَ الثباتَ والنصرَ والعزةَ. اللهم واشفِ جريحَهم، وارحمْ ميتَهم، واجبرْ مصابَهم وسكِّنْ مروَّعَهم.
اللهم احفظْ إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، واشفه شفاءً لا يُغادِرُ سَقَماً.
اللهم سَدِّدْ وليَ عهدِه، واجْزِهِ خَيْراً على نُصْرَةِ قَضايا المُسْلِمِين وقَضيةِ فلسطينَ.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ.
المرفقات
1716467337_منازلك الأولى.docx
1716467337_منازلك الأولى.pdf