لمَّا طغى الماء (وقفةٌ مع أهلنا في جدة)

سامي بن محمد العمر
1444/04/30 - 2022/11/24 23:27PM

لمَّا طغى الماء أما بعد: فقد أجمع العقلاء من كل أمة على أنّ هذا السائلَ اللطيف الرقراق، العذبَ المذاق، أساسُ الحياةِ في هذا الكون وبقائِها، وأصلُ ديمومتِها واستمرارِها، لا تتوقفُ - أبداً - حاجةُ الناس إليه، ولا ينقطعُ - أبداً - اعتمادُ الناس عليه، يهونُ أمره عندهم إذا توفرَ وكثُر، ويعظم شأنه إذا شحّ وعسُر، لا يُغني عنه شيء إذا فُقد، وتطمئن النفوس جداً إذا وُجد. القطرات منه في زمن الحاجة ترجُحُ بمُلك الدنيا، والمناصبِ العُليا. إنه الماء سرُّ الحياة الذي يَعرف العقلاء حظوته، ويدركون مكانته، ويقدِّرون قيمته، ويستيقنون أهميته، ويستبْقون مادته. ومَن تذكّر القحط وشدته والعطش وسطوته، وعرف نضوبَ الآبار ويبسَ الأشجار وقلةَ الثمار، وجفافَ الضرع وموتَ الزرع = فإنه يشكر الله ما أنعم به في هذا الزمان من وفرة المياه، ويحمده على ما منّ به من أسباب بقاء الحياة:  {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} المطر رحمة الله... تعرفه العرب جيدًا، فحياتهم كلها تقوم - قديما - على ماء السماء، الذي ينتظرونه بفارغ الصبر، وقد يطول الانتظار حتى يقع الإبلاس، وحينها يكون وقْعُهُ عليهم عظيما، وشأنه عندهم كبيرا .. {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 48، 49] عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ؛ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْو دَارِ الْقَضَاءِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِثْنَا. وفي رواية: َقَامَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَصَاحُوا، وَقَالُوا: يَا نبيَ اللهِ، قَحِطَ الْمَطَرُ، وَاحْمَرَّ الشَّجَرُ، وَهَلَكَتِ الْبَهَائِمُ. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ، أَغِثْنَا. اللَّهُمَّ، أَغِثْنَا. اللَّهُمَّ، أَغِثْنَا ". قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللهِ، مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلا دَارٍ. قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ. قَالَ: فَلَا وَاللهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا.  قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ، حَوْلَنَا وَلا عَلَيْنَا. اللَّهُمَّ، عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُون الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ " فَانْقَلَعَتْ. وَخَرَجْنَا نَمْشِى فِي الشَّمْسِ. وفي رواية قال: " اللَّهُمَّ، حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا " قَالَ: فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلى نَاحِيَةٍ إِلَّا تَفَرَّجَتْ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ. وسَالَ وَادِى قَنَاةَ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا أَخْبَرَ بِجَوْدٍ. وفي رواية: فَتَقَشَّعَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَتْ تُمْطِرُ حَوَالَيْهَا، وَمَا تُمْطِرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةً، فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِنَّهَا لفي مِثْلِ الإِكْلِيلِ. صلى الله على نبينا محمد، فما أكرمه عند ربه، ونشهد أنه رسول الله حقًا والمبعوث منه إلينا صدقًا، يعز عليه عَنَتُنَا، ويحرص على ما ينفعنا، وهو بأمته رؤوف رحيم. (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)   بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....   الخطبة الثانية عباد الله: يزيد المطر في جهةٍ ويقلُّ في جهة، وينتفعُ به أناسٌ ويتضررُ آخرون، ويُظْهِرُ الله شيئًا من عظمته، وقليلاً من بأسه وسطوته. وذاك من الابتلاء الذي لا أحدَ خارجَ دائرته {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}[البقرة:155] لكنّ للبلاءِ مع المؤمنِ وجهاً آخرَ جميلاً، متى ما تحققَ منه الصبرُ وطلبُ الأجرِ، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}... فعن صُهَيبٍ رضي الله عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ))([1]). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)([2]) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والله يُنزل بعبده المؤمن من الشدة والضُّر ما يُلجئه إلى توحيده؛ فيدعوه مخلصًا له الدين، ولا يرجو أحدًا سواه، ويتعلق قلبه به وحده؛ فيحصلُ له من التوكلِ والإنابةِ، وحلاوةِ الإيمان وذوقِ طعمه، والبراءةِ من الشرك ما هو أعظم نعمةً من زوال ضُرِّه، فإن ما يحصلُ لأهل التوحيد لا يمكنُ وصفه من ذلك"([3]) ا.هـ وما يحصل لأهلنا في جدة الآن بلاءٌ نسأل الله أن يخففه عليهم؛ ويلطف بهم، ويرحم موتاهم ويجبر مصابهم، ويعوّضهم خيراً مما فقدوه إنه سميع قريب. اللهم يا أمان الخائفين وجابر كسر المنكسرين يا غياث المستغيثين ومجيب دعوة المضطرين يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين نسألك لإخواننا في جدة لطفاً منك ورحمة، وأن تحرسهم بعينك التي لا تنام، وأن تحفظهم في كنفك الذي لا يرام. اللهم حواليهم ولا على عليهم، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر اللهم خفف مصابهم، وعظِّم ثوابهم، وأخلِف عليهم خيراً، وارحم ضعفهم واكشف ضرهم عاجلا غير آجل إنك سميع الدعاء.       ([1]) أخرجه مسلم (2999) كتاب: الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير. ([2]) رواه الترمذي (2399) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2280) . ([3]) مختصر الفتاوى المصرية (ص139).

المرفقات

1669321604_لما طغى الماء.pdf

1669321614_لما طغى الماء.docx

المشاهدات 1052 | التعليقات 0