قصة طالوت

راكان المغربي
1445/05/29 - 2023/12/13 15:27PM

 

الخطبة الأولى

أما بعد:

بعد سنواتِ التيهِ التي تاهَ فيها بنو إسرائيلَ في الصحراء، قام بهم نبيُّهم يوشعُ بن نونَ عليه السلام، فجاهد وجاهدوا معه حتى انتصروا على أعدائِهم، وأعطاهم الله سبحانه الملكَ مدةً من الزمن، عاشوا منعمين بتطبيقِ شرعِ الله في أرضه..

قال ابنُ كثير: "ثُمَّ أَحْدَثُوا الْأَحْدَاثَ وَعَبَدَ بَعْضُهُمُ الْأَصْنَامَ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَسَرُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُقَاتِلُهُمْ من قبل ذلك إِلَّا غَلَبُوهُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانَ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ وَالتَّابُوتُ الَّذِي كَانَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَكَانَ ذَلِكَ مَوْرُوثًا لِخَلَفِهِمْ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى مُوسَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ تَمَادِيهِمْ عَلَى الضَّلَالِ حَتَّى اسْتَلَبَهُ مِنْهُمْ بَعْضُ الْمُلُوكِ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ وَأَخَذَ التَّوْرَاةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَحْفَظُهَا فِيهِمْ إِلَّا الْقَلِيلُ"..

وبعد سنواتٍ عديدةٍ من الهزيمةِ والذلِّ والهوانِ الذي أصاب بني إسرائيل، انبعثت فيهم الحماسةُ، واتّقدت فيهم جذوةُ الإيمان، فانطلق أشرافُهم ورؤساؤُهم إلى نبيهم يطالبونه باتخاذ وسيلةٍ لرفعِ هذا الذلِّ واستعادةِ أمجادِ العزّ، قال الله سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ).

أراد نبيُّهم أن يستوثقَ من عزيمتِهم، ويتأكدَ من ثباتِهم وصدقِهم (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا). فكان الردُّ الحاسمُ الذي يدل على عِظَمِ حماسِهم وإقدامِهم (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)

ثم كتب اللهُ عليهم القتالَ كما طلبوا، وأصبح الجهادُ في سبيلِ الله فريضةً عليهم لا نكولَ فيها، وانتهى زمنُ الراحةِ والرخاءِ، وبدأ زمنُ الصبرِ والشدّةِ والبأسِ. وعند ذلك بدأت أولُ مراحلِ النكوصِ والانتكاساتِ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)..

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) هذا هو الملِكُ الذي طلبتم أن يقودَكم لاستعادةِ عزكم ومجدكم.

لكنَّ القومَ أخذوا يجادلون فيه، ويبتكرون الحججَ والمبرراتِ ليفرّوا عن فريضةِ القتال (قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ)، فنحن أحق منه بالملكِ لما لنا من الشرفِ والنسبِ والمالِ، وهو لم يكنْ كذلك. وهنا بدأت تتكشفُ الحقائقُ، وتظهرُ النيّات، ويتميّزُ الذي يريد نصرةَ الدينِ من الذي يريد نصرةَ نفسِه وجاهِهِ وشرفِه.

يرد عليهم نبيُّهم (ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، وكفى بهذا الجواب من إسكاتٍ لهم، فطالوتُ هو من اختيارِ اللهِ العليمِ الذي يعلمُ من هو أصلحُ للملك، وقد فضّلَه عليكم بقوةِ العلمِ وقوة الجسمِ، وبهما تتم أمورُ المُلكِ والجهاد.

كانت هذه الأمورُ كافيةً لأن توقدَ فيهم الهممَ لاتباع هذا الملِك، ولكنَّ اللهَ سبحانه أراد أن يزيدَهم من الحججِ والبراهينِ التي تزيد من ثقتِهم وإيمانِهم بصدقِ نبيِّهم وبعثِ ملكِهم (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ)..

ولك أن تتخيلَ ذلك المنظر، وتلك الخارقة، والتابوتُ الذي نهبه منهم الكفارُ -بما فيه من آثار الأنبياء- يعود إليهم تحملُه الملائكة (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)..

كلُّ تلك الأمورِ كانت إشاراتٍ لمعيةِ اللهِ لهم، ما داموا مقيمين على طريق العزِّ ونصرةِ دينِ الله..

تجهّزَ الجيشُ من القلةِ الثابتةِ الذين لم تتولَّ ولم تنكِصْ، وانطلق الجيشُ للقتال، وحين خرجَ من البلد، أراد الملكُ طالوتُ أن يستوثقَ من قوةِ صبرِهم وثباتِهم، إذ أنهم مقدمون على عدوٍّ قاهرٍ، وهم قومٌ اعتادوا الهزيمةَ والهوان.

والارتقاءُ من منحدراتِ الذلِّ إلى مراقي العزِّ لا يكونُ إلا على أيدي الصامدين الصابرين، فأراد أن يختبرَ ذلك منهم (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) هذا هو الحدُّ المسموحُ فقط (غُرْفَةً بِيَدِهِ)، والذي يتجاوزه لن يكملَ المسيرةَ مع جيش الصبرِ والنصرِ..

وكانت النتيجةُ مزيداً من التصفية (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ)..

وهكذا تتصفى قلةٌ من قلة. واللقاء سيكون مع عدو كثيرٍ ومهيبٍ، فلا مقارنةَ ولا مقاربةَ..

يمضي الجيشُ بالثابتين، ويولي النهرَ ظهرَه (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)، وهي حسبةٌ طبيعيةٌ بالمقاييسِ البشرية، فالأعدادُ متفاوتة، والعدّةُ والسلاحُ كذلك..

ولكن حين يحضر الإيمانُ، فإن الموازينَ تختلف، والمقاييسَ تتبدل، وبتلك المقاييسِ نظر أصحابُ اليقين بلقاء الله (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)

فهي قاعدةٌ تكررت وستتكررُ في كثيرٍ من الأزمنةِ والأمكنةِ (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) إذ أن هذه الفئةَ المؤمنةَ الصابرةَ لم تستمد النصرَ من العدةِ والعتادِ، وإنما استمدته أولاً وآخراً من مصدرِ القوة، قوةِ الله الغالب.

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)..

وها هي القوةُ الإلهيةُ تتدخلُ في المعركة، ويستجيب اللهُ لدعاء الصادقين فيُفْرِغُ عليهم من الصبرِ حتى يغمرَهم بالسكينةِ والطمأنينةِ، ثم يثبتُ تلك الأقدامَ فلم تتزلزلْ ولم تضطربْ، ثم يتمُّ عليهم نصرَه، ويُنجزُ لهم وعدَه.

(فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ) وتحطمت أسطورةُ جالوت، وانتهى ملكُه العظيمُ على يد داودَ الذي كان من صغارِ الجيش آنذاك، فجازاه الله على ذلك ما قال سبحانه: (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)..

ثم تنتهي حكايةُ تلك القصة بذكرِ سنةِ المدافعةِ بين أهلِ الحق وأهلِ الباطل، فـ"لولا أنّ من سُنَّة الله أن يردَّ ببعض الناس فساد بعضهم، لفسدت الأرض بتسلط المفسدين فيها وتمكُّن الطغيان، وأهلِ المعاصي"

ولذا فمن الواجب على أهل الحق أن يدفعوا فسادَ أهل الباطل، وأن يقفوا في وجهِ الطغيان، فبذلك تصلح الأرضُ، وينتفي عنها الفساد (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)..

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فإن قصةَ طالوتَ مليئةٌ بالدروس والعبر، ولعلنا نركزُ على درسٍ من أعظمِ دروسِها، ألا وهو درس الثبات.

انظر كيف ثبت المؤمنون مع طالوتَ في كلِّ مراحلِ الامتحانِ والابتلاء؟!

وفي كلِّ موقفٍ كانوا يرون الناكصين خلفهم، فلا يتثبطون، ولا يضعُفُون. ثبتوا على الطريقِ مرحلةً بعد مرحلة، حتى حقق الله غاياتِهم في إعلاءِ كلمةِ الله، وجاء النصرُ على أيديهم..

الثابتون هم أصحابُ المبادئ، التي لا يتزعزعون عنها مهما اشتدّت عليهم الظروفُ، وتكالبت عليهم الشدائدُ. لا يركبون أمواجَ الفتن، ولا يُنصتون لتثبيط المثبطين، ولا إضلال المضلين..

يسعون في طريقِ الحق، ولا يلتفتون للمشتتات، ولا يقفون عند العقبات.

هم على درب الصبر سائرون، ولخطى الأنبياءِ والصالحين مقتفون، وإلى رضوان الله وجناته هم بإذن الله واصلون..

لا تزيدهم المحنُ إلا ثباتا، ولا تزيدهم الفتنُ إلا صبرا وإيمانا.

لا يزالون على أمرِ الله، به قائمون، وعليه ثابتون (لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، أوْ خالَفَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ على ذلك)

فاللهم ارزقنا الثبات، وقنا الشرور، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ..

اللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين..

اللهم انصر إخواننا المستضعفين في فلسطين، اللهم أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف

اللهم كن لهم مؤيدا ونصيرا، وظهيرا ومعينا.

ربنا أفرغ عليهم صبرا وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين

اللهم انتقم من اليهود المعتدين، واجعلهم عبرة للمعتبرين، وادحرهم عن ديار المسلمين.

المرفقات

1702470440_قصة طالوت.docx

1702470440_قصة طالوت.pdf

المشاهدات 969 | التعليقات 0