قصة الأضحية-6-12-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
محمد بن سامر
قصة الأضحية-6-12-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عليه وآلهِ صلاتُه وسلامُه وبركاتُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أما بعد: فيا إخواني الكرام:
(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، والخُلَّةُ هِي َأَعْلَى أَنْوَاعِ المَحَبَّةِ ولا تَكُونُ إلا لِشَخصٍ وَاحدٍ فَقَط، وإِنَّمَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ خَلَلًا إِلَّا مَلَأَتْهُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي*وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا
فدعا الخليلُ إبراهيمُ-عليه وعلى نبيِنا وآلـهِما الصلاةُ السَّلامُ-ربَّه-عزَّ وجلَّ-أن يَهِبَه ولدًا ينفعُه في حياتِه وبعدَ مماتِه، فقالَ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، فاستجابَ اللهُ-تعالى-له، وجاءَتهُ البُشارةُ بإسماعيلَ-عليه السَّلامُ-: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)، فما أجملَها من بُشارةٍ بغلامٍ ذكرٍ، حليمٍ ذي خُلُقٍ وصَبرٍ، وعندما وُلدَ الغُلامُ، وأحبَّه أبوهُ محبةً شديدةً، كانَ لا بُدَّ من اختبارِ إبراهيمَ: هل محبةُ الولدِ زاحَمتْ محبةَ اللهِ-تعالى-في قلبِ الخليلِ؟
فجاءَ الاختبارُ الأولُ: أُمرَ إبراهيمُ بتركِ ابنِه وزوجتِه هاجرَ في مكانٍ قَفرٍ ليسَ فيه ماءٌ ولا أحدٌ، حَتَّى وَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ وَلَيْسَ بِها يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ تقولُها مِرَارًا، وهو لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ.
ما أعظمَ هذا التَّسليمَ، شَيخٌ كَبيرٌ مَقطوعٌ من الأهلِ والقَرابةِ، مُهاجرٌ إلى اللهِ، جاءَه غلامٌ حليمٌ بعدَ طُولِ عُمرٍ وإلحاحِ دُعاءٍ، يضعُ ابنَه وزوجتَه الضُّعفاءَ في مكانٍ ليسَ فيه إنسٌ ولا ماءٌ، ليسَ بينَهم وبينَ الموتِ إلا أن يَنْفَدَ-ينتهيَ-ما في الجرابِ من تمرٍ، وما في السِّقاءِ من ماءٍ، لا لشيءٍ إلا لأنَّ اللهِ أمرَه بذلكَ، ثُمَّ ماذا كانتْ النَّتيجةُ؟ فَجَّرَ اللهُ-تعالى-من تحتِ قدمي الغلامِ إسماعيلَ عينًا مباركةً-زمزمَ-إلى يومِ القيامةِ، وكانَ هو من بنى الكعبةَ بيتَ اللهِ-تعالى-مع أبيه لتهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ، وجُعلَ سعيُ هاجرَ من مناسكِ الحجِّ والعمرةِ تخليدًا لذكرِها إلى يومِ القيامةِ، وبعثَ اللهُ في هذا الوادي من نسلِه خاتمَ وخيرَ الرُّسلِ محمدًا-عليه وآلهِ وصحبهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.
ثُمَّ لما كَبُرَ الغلامُ، جاءَ الاختبارُ الثَّاني: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)، وبَلغَ سِنًّا يَكونُ-في الغَالبِ-أَحبَّ ما يَكونُ لوالديهِ، قد ذَهبتْ مَشقتُه، وأَقبلتْ منفعتُه، وعادةُ قلوبِ الآباءِ أن تتعلَّقَ بأبنائهم في مِثلِ هذه السِّنِ، فكيفَ بقلبِ الأبِّ الرحيمِ، بابنِه الوحيدِ الحليمِ، فأرادَ اللهُ أن يختبرَ قلبَ خليلِه برؤيا حقٍّ في المنامِ.
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، رأى الرُّؤيا فما ناقشَ في أمرِ اللهِ العليمِ الخبيرِ، ولم يسألْ عن الحكمةِ من ذَبحِ ولدِه الصَّغيرِ، ولم يعترضْ: لماذا يجبُ أن يذبحَه بيدِه وهو الأبُّ الكسيرُ؟ ولا قالَ كيفَ سيكونُ حالُ أمِّه صاحبةِ القلبِ الكبيرِ؟ وحُقَّ لمثلِه أن يكونَ خليلَ اللهِ-تعالى-السَّميعِ البصيرِ.
(فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)، أخبرَه ليتهيأَ لأمرِ اللهِ-تعالى-، فماذا كانَ جوابُ الابنِ؟ ما هو جوابُ الشَّابُ الصَّغيرُ الذي يُحبُ الحياةَ؟ ما هو موقفُ غلامٍ صغيرٍ وهو يُخبرُ أنَّه سيُذبحُ بيدِ أبيه؟
(قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، اللهُ أكبرُ! لم يقل: افعل ما تُريدُ، أو افعل ما تُـحبُّ، بل معنى قولِه: يا أبتِ هذا أمرٌ من الله-تعالى-، ليسَ لي ولا لكَ فيه نظرٌ، وإنما هو المبادرةُ واحتسابُ الأجرِ، (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، فلن أزيدَ حُزنَك بالجزعِ والبُكاءِ، ولا التَّوسلِ إليكَ بعدمِ الذَّبحِ والدُّعاءِ، ولأنَّ الأمرَ أمرٌ عصيبٌ، قالَ: (إِن شَاءَ اللَّهُ)، لأنَّه لا ثباتَ في مِثلِ هذه المواقفِ إلا بتثبيتِ اللهِ-تعالى-.
(فَلَمَّا أَسْلَمَا) بالرِّضا والطَّاعةِ والثِّقةِ والطُمأنينةِ والانقيادِ، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، أضجعَه على وجهِه لئلا ينظرَ إليه وقتَ الذَّبحِ، وحتى لا تأخذه رأفةُ الأبوَّةِ، فوضَعَ السِّكينَ؛ ليَشرعَ في الذَّبحِ، ولكَ أن تتخيلَ حالَهما في تلكَ اللَّحظةِ من البَلاءِ، فإذا بالنِّداءِ الرَّحيمِ يأتي من السَّماءِ، (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، قد حصلَ المقصودُ من هذا الاختبارِ، وظهرَ صِدقُ تسليمِكَ للعزيزِ الجبَّارِ، فليسَ المقصودُ هو سَفحُ الدِّماءِ، بل العزمُ الصَّادقُ على تنفيذِ أمرِ اللهِ والاستسلامِ لأمرِه، وقد حصلَ ذلكَ كلُّه، وكانَ هذا من أعظمِ اختباراتِ العَالَمينَ، كما قالَ تعالى: (إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ).
أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
ثُمَّ قالَ-تعالى-: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، ففداهُ اللهُ بذِبحٍ-كبشٍ-عظيمٍ من الغنمِ، وأصبحَ سُنَّةً وقُربةً إلى يومِ القيامةِ، (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)، فهيَ سُنةُ الأضحيةِ تكونُ في عيدِ الأضحى ويتقرَّبُ بها المسلمونَ إلى ربِّهم-تعالى-إلى يوم يُبعثونَ.
إخواني: ينبغي على أحدِنا وهو يذبحُ أضحيتَه أن يتذكَّرَ قصةَ الاستسلامِ العظيمةِ، الذي كانتْ خلفَ تشريعِ هذه الشَّعيرةِ الكريمةِ، نُريدُ أن نُحييَ في قلوبِنا عبادةَ التَّسليمِ للهِ العزيزِ العليمِ.
وهل الدِّينُ إلا الاستسلامَ؟! يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ-رحمَه اللهُ تعالى-مُعرِّفًا الإسلامَ: (هو الاستسلامُ للهِ لا لغيرِه، بأنْ تكونَ العبادةُ والطَّاعةُ له والذِّلُّ له سبحانَه، وهذه حقيقةُ لا إلهَ إلا اللهُ)، قالَ-تعالى-: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى).
وتأملوا هذه الآيةَ: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)، إذًا التَّسليمُ الخالصُ للهِ-تعالى-في أقدارِه وأحكامِه، الذي لا يجدُ الإنسانُ في قلبِه مثقالَ ذرةٍ من حرجٍ، هو الأساسُ الذي يُبنى عليه الإيمانُ الصَّادقُ، ولذلكَ قالَ الطَّحاويُّ-رحمَه اللهُ-: (ولا تَثبتْ قَدمُ الإسلامِ إلا عَلَى ظَهرِ التَّسليمِ والاستسلامِ).
يا حيُ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَك إنَّا كنا من الظالمينَ، أسألكَ بأسمائِك الحسنى، وصفاتِك العلى، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اهدنا والمسلمين لأحسن الأخلاق والأعمال، واصرف عنا وعنهم سيِئها، اللهم اغفرْ لوالدينا وارحمهم واجعلهم في الفردوسِ الأعلى من الجنةِ وإيانا والمسلمين، اللهم إنَّي أسألك لي وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ والظالمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ، اللهمَ اسقنا وأغثنا(ثلاثًا).
اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وأنبياءِ ورسلِه وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1626320020_قصة الأضحية-6-12-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1626320023_قصة الأضحية-6-12-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf