غزوة تبوك دروس وعبر
عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
. الحمد لله عدد خلقه ، ورضى نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته، وأُصلي وأُسلم على الرحمة المهداة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
( أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى فهي سبب عظيم لتنفيس الكُرب، وتفريج الضوائق، وبسط الأرزاق، وحلول الأمن كما قال العزيز الرحيم: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ
أيها المؤمنون: سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم زاخرة بالدروس والعبر، وفي هذه الخطبة بإذن الله تعالى نقف مع شيء من دروس وعبر شيء من سيرته صلى الله عليه وسلم، ففي مثل هذه الأيام مع شدة الحر ولهيب الشمس وطيب الضلال ونضوج الثمار وقع في شهر رجب من السنة التاسعة للهِجْرة من الأَحْداث الكبرى غزوة تبوك، التي كانت آخر مَغَازي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوفاه الله تعالى
لقد كانت غزوة مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا في سبيل الله، والفقراء الذين عجزوا، ونبأ المنافقين الذين فُضِحوا، وحكاية الثلاثة الذين خُلِفوا، وأخبار المسير والحصار، وفرض الجزية على أهل الكتاب، وما الحديث عنها تكفيه الخطبة؛ ولكن هذه مقتطفات يسيرة عن هذه الغزوة التي قصَّ الله تعالى بعض نبئها في سورة التوبة، فإن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بلغه أن الروم النصارى ومَن شايعهم من العرب يُعدون العُدَّة لقتال المُسلمين بعدما أظهر الله تعالى دين الإسلام في جزيرة العرب ، فبدأ صلَّى الله عليه وسلَّم بالتهيئ لهم، والاستعداد لقتالهم في حرٍ شديد، والمسافة بينه وبين العدو بعيدة، والعدو شديد البأس، وثمار المدينة طابت، والظِلال رُغِبت، فاستنفر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم المؤمنين للقاء العدو ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلّما يخرج في غزوة إلا كنّى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجهة الذي يعمد لها، إلا ما كان من غزوة تبوك؛ فإنه بيَّنها للناس؛ لبُعد المسافة، وشدة الزمان، وكثرة العدو
أيها المسلمون: نادى صلى الله عليه وسلم في أصحابه وهُم على قِلَّةٍ من المال والعتاد : (مَن جهَّز جَيْش العُسرَّةِ فله الجنَّة)، فتسابقوا رضي الله عنهم للبذل، فجاء أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه بماله كُله، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (هَلْ أبْقيْتَ لأَهلِك شيئًا)، فأجاب بيقينٍ):أبقيت لهم الله ورسوله(، ثُمَّ جاء عُمر رضي الله عنه فتصدق بنصف ماله ، وتتابع الصحابة رضي الله عنهم يساهم كل واحد منهم بما يستطيع، حتى أنفق عُثمان بن عفان رضي الله عنه ثلاثمائة بعير مُجهزة، وجاء بمالٍ كثيرٍ من الذهب والفِضَّة فصبَّه في حِجر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يقلبها: (مَا ضر عُثمان ما عمِل بَعْدَ اليَوْم) رواه الترمذي
لقد كان الأغنياء من الصحابة يتجهزون ويُجهزون، والفقراء لا يجدون ما يُجهزون به أنفسهم، واشتاقوا للجهاد في سبيل الله تعالى، فامتلأت أعينهم بالدمع لهذا الحرمان، وفيهم أنزل الله تعالى قوله: ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) ، ومع أنهم عُذِروا ولم يخرجوا للغزو، فإن قلوبهم كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسير خبرهم فقال ":إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم"، قالوا: "يا رسول الله: وهم بالمدينة؟!"، قال:"وهم بالمدينة، حبسهم العذر" ، رواه البخاري، وجاء طائفةٌ من المنافقين إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يلتمسون العذر في عدم الخروج، جاءوا بأعذارٍ كاذبة، فكُشِف مستور قلوبهم، وكان من تلك الأعذار ما اعتذر به الجد بن قيس وهو أحد المُنافقين، فقال للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (إني أخشى على نفسي الفتنة بنساء بني الأصفر، فإني لا أصبر على النساء)، فكذَّبه الله وفضحه، فقال سُبحانه: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾، وقال قوم من المنافقين لبعضهم : لا تنفروا في الحر تخذيلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى فيهم قوله: ( وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون)، وأما المؤمنون الصادقون فتخلف منهم عدد قليل، قال ابن إسحاق رحمه الله: ( وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغيبة حتى تخلفوا عن رسول الله منهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكانوا نفر صدق لا يُتهمون في إسلامهم، وفيهم أنزل الله تعالى آيات تتلى إلى يوم القيامة بتوبته عليهم بعد أن صدقوا فابتلوا وصبروا ، قال جل وعلا عنهم: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
أيها المؤمنون: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومعه المُهاجرون والأنصار، واسْتَخْلَفَ عَليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على أهله ، واستخلف محمد بن مسلمة رضي الله عنه على المدينة ، ثم سار ومعه الصحابة وعددهم ثلاثون ألفاً في قلة من الظَهر حتى كان الرجلان والثلاثة يعتقبون على بعير ، وتخلف من تخلف من المنافقين ، وأما رابع المؤمنين الصادقين الذي تخلفوا فهو أبو خيثمة رضي الله عنه، فقد جاء ذات يوم بعد خروج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى تبوك بالجيش إلى بيته، وقد هُيأ له طعامٌ حسن، وظلٌ بارد من زوجتيه، فاستيقظ قلبه وأستدرك، وقال لنفسه مُعاتبًا: "أبو خيثمة في ظلٍ بارد، وطعامٍ مُهيأ، وامرأةٍ حسناء في ماله مُقيم، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الشمس والحر والريح، والله ما هذا بالنَصَف، والله ما هذا بالنَصَف، فأعدَّ رحله ولحِق برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فأنجاه الله تعالى من التخلُّف ، فلمَّا أقبل على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهُم في تبوك قال الصحابة: هذا راكبٌ على الطريق مُقبِل، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُن أبا خيثمة»، فلما جاء إذا هو أبو خيثمة ، فأخبره بخبره، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خيرًا ودعا له" رواه ابن حبان
ويتأخر عن الجيش أبو ذر رضي الله عنه ببعيره الهزيل، فما كان منه إلا أن أخذ متاعه وحمله على ظهره وسار لاحقاً بالجيش تاركاً وراءه بعيره، فأبصره أحد الصحابة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله: رجل يمشي إلى الطريق وحده، متاعه على ظهره، فقال عليه الصلاة والسلام: (كن أبا ذر، كن أبا ذر)، فإذا هو أبو ذر؛ فأخبروا النبي بذلك، فقال: "رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده"، رواه الحاكم
وسُئل عمر رضي الله عنه عن شأن غزوة العسرة فقال: (خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده" رواه ابن حبان، وقال الحسن البصري رحمه الله يصف جيش العسرة والشدة التي لا قوها: (كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يتعقبونه بينهم، وكان زادهم التمر المتسوس، والشعير المتغير، وكان النفر يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة، فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم) ، ولمّا مر الرسول عليه الصلاة والسلام بالحِجْر ديار ثمود ، قال: (لا تَدخلوا مساكنَ الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكينَ، أن يُصيبكم ما أصابهم) رواه البخاري. ثم تَقَنَّعَ بردائِهِ وهوَ على الرَّحْلِ. وأمر الصحابة بإلقاء ما عجنوا من ماء بئر في ديار المعذبين للإبل وأن يُهريقوا الماء، فما كان منهم إلا الاستجابة لأمره مع شدة جوعهم وعطشهم
وينتهي المسير برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بعد مضي شهر، ويقيم بها بضع عشرة ليلة، فلم يواجهوا بها عدوًا؛ ذلك أن الله تعالى ألقى في قلوب الروم الخوف من جيش المسلمين ، فلم يخرجوا للقائهم وتحصنوا بديارهم فتم حصارهم من جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض عليهم الجزية، فدحض الله تعالى كيدهم وتربصهم بالمسلمين، وقد حصلت أحداث أثناء بقائه عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام فيها، من ذلك: ما حدث به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال: (نمنا ليلة متعبين في تبوك وانتبهت في وسط الليل، فالتفتُّ إلى فراش النبي فلم أجده، والى فراش أبي بكر وعمر فلم أجدهما، وإذا بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعهما، فإذا رسول الله حفر قبرًا، ومعه أبو بكر وعمر، وعنده سراج بيده قد نزل وسط القبر، فقلت: يا رسول الله: من الميت؟! قال: "هذا أخوك عبد لله ذو البجادين". إنه أحد الصحابة أسلم، وكان تاجرًا، فأخذ أهلُه وقومُه مالَه كله حتى لباسه، فذهب فما وجد لباسًا غير شملة قطعها إلى بجادين، وفر بدينه يريد الله والدار الآخرة، وأخبر رسول الله بخبره، فقال: "تركتَ مالكَ لله ولرسوله، أبدلك الله ببجاديك إزارًا ورداءً في الجنة، أنت ذو البجادين"، فلُقِّب بذلك، يقول عبد الله بن مسعود: وأنزله رسول الله إلى القبر، فوالذي لا إله إلا هو ما نسيت قوله وهو في القبر وقد مد ذراعيه لذي البجادين وهو يقول لأبي بكر وعمر: "أدنيا إليَّ أخاكما، فدلياه في القبر، وهو يبكي ودموعه تتساقط على الكفن، ثم وقف عليه الصلاة والسلام لما وضعه في القبر رافعًا يديه مستقبلاً القبلة، وهو يقول: "اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه"، يقول ابن مسعود ":فوالله ما تمنيت إلا أن أكون صاحب الحفرة لأنال دعاءه"، رواه أبو نعيم وغيره، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك وخطب الناس وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال: " ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس، إن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن شر الناس رجلاً فاجراً جريئاً يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شيء منه") رواه الإمام أحمد، وفي هذه الغزوة صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر مأموماً خلف عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه حين صلى بالناس بعد أن أبطأ النبي صلى الله عليه وسلم لذهابه للوضوء فأدرك الركعة الثانية معهم ، فلما سلم الناس ورأوه عليه الصلاة والسلام أعظموا ذلك فقال: أحسنتم وأصبتم" رواه الإمام أحمد
وحين قدم صلى الله عليه وسلم تبوك أتاه صاحب إيله فصالحه على دفع الجزية ، وأتاه أهل جرباء وأذرح وأعطوه الجزية وكتب لهم جميعاً كتب أمان، وبعث صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي رضي الله عنه إلى هرقل ملك الروم ، فلما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قسيسي الروم وبطارقتها ثم أغلق عليهم الدار ، وقال : " قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم ، وأرسل يدعوني إلى ثلاث خصال : أن أتبعه على دينه ، أو نعطيه ما لنا على أرضنا، أو نلقي إليه الحرب، فهلموا نتبعه على دينه أو نعطيه مالنا على أرضنا، فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا: تدعونا لنذر النصرانية أو نكون عبيداً لأعرابي جاء من الحجاز ، وكان هرقل قد رق قلبه للإسلام إلا أنه حين رأى شدة غيظهم من كلامهم خاف على ملكه وأنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم فقال لهم مهدأً : إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم" ، وبعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة في سرية فقدروا على ملكها وأتوا به إلى رسول الله فحقن دمه وصالحه على الجزية ، وأرسل صلى الله عليه وسلم لبعض الأمصار رُسلاً يدعوهم للإسلام أو دفع الجزية أو الحرب فاستجاب كثير منهم لدفع الجزية ، وحصل فيها معجزات له صلى الله عليه وسلم من ذلك حين أصابهم العطش الشديد استسقاء فنزل الغيث مدراراً، وحين قل الطعام جمع الصحابة ما كان مع كل أحد منهم من طعام قليل على نطع صغير حتى كان أحدهم ليأتي بملء كفه تمر أو ذره أو كسرة فدعاء عليه الصلاة والسلام بالبركة وأمرهم أن يأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤها وشبعوا وفضُل الطعام، وكذا ما كان منه صلى الله عليه وسلم في الماء القليل الذي لا يكفي إلا للراكب أو الراكبين في وادٍ يقال له المشقق حين سكب من يديه الشريفتين فيه ونضحه بيده فامتلأ حتى شرب الجيش كله وغير ذلك من المواقف المدونة في كتب السير تجاوزتها اختصاراً
أيها المسلمون: غزوة تبوك مشابهة لغزوة الأحزاب، فإن بلاء المسلمين أولها كان شديدًا ثم حال ختامها طمأنينة وعزًّا، وقفل النبي صلى الله عليه وسلم عائدًا إلى المدينة في رمضان موفورًا منصورًا، حتى قدم إلى المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد، فقال: هذه طابة، وهذا أُحد يحبنا ونحبه، وتسامع الناس بمقدمه، وفرح النساء والصبيان وقوبل جيش العسرة بحفاوة بالغة حين عادوا منتصرين كفاهم الله عدوهم وكبته وكسر شكوته وحفظ نبيه صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
:الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعدُ
أيها الفضلاء: ما الحديث عن غزوة تبوك إلا استذكاراً لشيء من سيرته صلى الله عليه وسلم وبذله في سبيل الله تعالى وكذا صحابته رضوان الله عليم لنُحسن الاقتداء بهم، فلإن صبرا أولئك الأخيار للخروج في الحر الشديد لملاقاة عدوا أكثر عدة وعتاداً منهم وسفراً بعيداً مع قلة الزاد ابتغاءً للثواب من الله تعالى وطلبا لأعالي الجنان، فما بال بعض المسلمين هداهم الله يتخلَّفون عن صلاة الفجر جماعة بعذر قصر الليل ونومهم عنها ، ويتخلفون عن صلاة الظهر والعصر جماعة بعذر شدة حرارة الشمس ولهيب الصيف ، وربما فرط بعضهم في صيام يوم عرفة وتعذر بشدة الحر، وبعد أيام قليلة سيحل العاشر من محرم وربما بيت النية بعدم الصيام بحجة الحر وشدة العطش ففاته ما فيه من أجر عظيم ، وهكذا يتخاذل بعض الناس عن كثير من الأعمال الصالحة ويبخلون بأمولهم وإنفاقها على الفقراء والمحتاجين عبر المنصات المعتمدة خوفاً من الفقر واستجابةً لوسوسة الشيطان الرجيم، والصحابة رضي الله عنهم بذلوا أموالهم مع فقر كثير منهم ابتغاءً لرضى الله تعالى، وكذا استجابتهم لأمره صلى الله عليه وسلم بإلقاء الطعام الذي عجنوه من ماء بئر ديار ثمود مع عطشهم وجوعهم وهذا هو الإيمان الصادق الذي يُقدم صاحبه أمر الله تعالى ورسوله على رغبات النفس وشهواتها، فما بال البعض من المسلمين اليوم مصر على شرب الدخان أو الشيشة أو تعاطي أي نوع من المخدرات أو سماع ومشاهدة ما حرم الله معرضاً عن نهي الله تعالى ورسوله عن ذلك كله
أيها المسلمون: حضر العسرة من حَضَر، وتخلَّف عنها من تخلَّف، وتحمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المشقة، وذهبت وذهبوا، وبقي الأجر موفورًا لهم، والوزر مكتوبًا على المُتخَلَّفِينَ من المنافقين إلا من تاب ، وهكذا يفعل الطاعة من يفعلها، ويتخلف عنها من يتخلف ، وسينسى صاحب الطَّاعة المشقة التي لحقته؛ كما سينسى المُقَصِّر فيها الراحة التي خلد إليها كما زعم، وسيمضون، وسيبقى الأجر للعاملين ، والوزر على المتخلفين، وكل سيجد ما عمل يوم الدين، فإن الجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، ومدهما بنصرك وإعانتك وتوفيقك ، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا وأحفظهم واشف مريضهم وداوي جريحهم وتقبل ميتهم في الشهداء، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا وحرم على النار أجسادنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
المرفقات
1689776721_غزوة تبوك.doc