عطايا الرحمن لأهل الجود والإحسان ( تعميم الوزارة الموقرة )
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي اخْتَصَّ شَهْرَ رَمَضَانَ بِمَزِيدٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالإِكْرَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ الْمَلِكُ الْعَلاَّمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الأَنَامِ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70، 71 ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ أَجْلِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْنَا أُمَّةَ الْإِسْلامِ : مَوَاسِمَ الطَّاعَاتِ وَاَلَّتِي مِنْهَا : شَهْرُ رَمَضَانَ ؛ شَهْرُ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالْقُرْآنِ ، وَشَهْرُ الْجُودِ وَالْعَطَاءِ مِنْ خَالِقِ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ؛ الَّذِي أَحَبَّ الصِّيَامَ ، وَأَحَبَّ مَنْ تَقَرَّبَ لَهُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيِمَةِ ؛ فَجَعَلَ جُودَهُ وَعَطَاءَهُ لِعِبَادِهِ عَظِيمٌ وَكَرَمَهُ عَمِيمٌ ؛ وَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ الْجُودَ وَالْعَطَاءَ وَالْأَجْرَ وَالثَّوابَ وَالْجَزَاءَ لِعِبَادِهِ بِمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللهُ تَعَالَى، وَلَـمْ يَكِلْهُ تَعَالَى إِلَى مَلائِكِتِهِ ، بَلْ تَولَّى جَزاءَهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ ، وَاللهُ تَعَالَى إِذَا تَوَلَّى شَيئًا بِنَفْسِهِ دَلَّ عَلَى عِظَمِ هَذَا الثَّوابِ وَذَلِكَ الأجْر؛ ذَلِكَ أنَّ الْعَبْدَ الصَّائمَ يَترُكُ مَا تَشتَهِيهِ نَفْسُهُ ، وَمَا أَبَاحَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْ مَلَذَّاتِ الطَّعَامِ والشَّرابِ والجِماعِ، طاعةً للهِ عزَّ وجلَّ، وطَمَعًا فِي نَيْلِ محبَّتِه ورِضَاه ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فإنَّه لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ .. الحديث "[ متفق عليه ]
وَشَهْرُ رمضان هُوَ شَهْرُ الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ ، وَالإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ ، وَشَهْرُ التَّواصُلِ وَالتَّكَافُلِ ، وَشَهْرٌ تَغْمُرُ فِيِهِ الرَّحْمَةُ قُلُوبَ الْـمُؤْمِنِينَ، وَتـَجُودُ فِيِهِ بِالْعَطَاءِ أَيْدِي الْـمُحْسِنِينَ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ»
وَصُوَرُ الْجُودِ مُتَعَدِّدَةٌ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ ، مِنْهَا : الْجُودُ بِالنَّفْسِ، وَالْجُودُ بِالْمَالِ، وَالْجُودُ بِالْعِلْمِ وَبَذْلِهِ، وَالْجُودُ بِالْجَاهِ كَالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْجُودُ بِالْعِرْضِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْ كُلِّ مَنْ شَتَمَهُ أَوِ اغْتَابَهُ، وَالْجُودُ بِنَفْعِ الْبَدَنِ، وَالْجُودُ بِالصَّبْرِ وَالتَّحَمُّلِ، وَالْجُودُ بِالْخُلُقِ وَالْبِشْرِ وَبَذْلِ النَّدَى، وَالْجُودُ بِتَرْكِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَالاِسْتِعْفَافِ عَنْهُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجُودُ بِهِ الْعَبْدُ ، وَيَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا فَرِيضَةَ الزَّكَاةِ ، الَّتِي هِيَ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ وَمَبَانِيهِ الْعِظَامِ ؛ وَهِيَ بُرْهَانُ صِدْقِ الإِيمَانِ ، وَسَبَبٌ فِي النَّمَاءِ وَالْبَرَكَةِ وَعَدَمِ النُّقْصَانِ ؛ بِهَا تُدْفَعُ النِّقَمُ وَتُسْتَجْلَبُ النِّعَمُ، ؛ وَهِيَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الْفَلاَحِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ [المؤمنون: 1 - 4].
وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجنَّةَ. قَالَ: «تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ». قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هٰذَا شَيْئًا أَبدًا، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ. فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هٰذَا» [متفق عليه].
وَهِيَ تَطْهِيرٌ لِصَاحِبِهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَتَزْكِيَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَتَطْهِيرٌ لِمَالِهِ، وَسَبَبٌ فِي زِيَادَتِهِ وَبَرَكَتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103]. وَالزَّكَاةُ سَبَبٌ فِي حِمَايَةِ الْمُجْتَمَعَاتِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْجَرَائِمِ الْخُلُقِيَّةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ عَنِ الْفَقْرِ وَالْعِوَزِ وَالْحَاجَةِ، وَفِيهَا تَوْطِيدٌ لِدَعَائِمِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ وَالأُلْفَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ ؛ وَالَّذِي مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى ، وَأَقْبِلُوا عَلَى رَبِّكُم وَتُوبُوا إلَيْهِ ، وَاتَّصِفُوا بِخُلُقِ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا هُوَ خَلُقُ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَحَرِيٌّ بِنَا جَمِيعًا أَنْ نَسْلُكَ مَسْلَكَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَنَتَّصِفَ بِصِفَةِ الإِحْسَانِ وَالْجُودِ بِشَهْرِ الْجُودِ، بِدَفْعِ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ لِمُسْتَحِقِّيهَا، سَوَاءً دَفَعَهَا الْمُسْلِمُ بِنَفْسِهِ أَوْ عَبْرَ الْجِهَاتِ الرَّسْمِيَّةِ الْمُصَرَّحِ لَهَا بِجَمْعِ الزَّكَاةِ وَالتَّبَرُّعَاتِ، وَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ دَفْعِهَا لِجِهَاتٍ مَجْهُولَةٍ مَشْبُوهَةٍ خَارِجَ الْمَمْلَكَةِ وَالَّتِيِ تَكْثُرُ وَتَنْتَشِرُ عَبْرَ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ، وَرُبَّمَا تَسْتَخْدِمُ مَا تَجْمَعُ مِنَ الأَمْوَالِ فِي حَرْبِ هَذِهِ الْبِلاَدِ؛ أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
المرفقات
1649272938_عطايا الرحمن لأهل الجود والإحسان.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق