ظلم الأقارب
محمد بن سليمان المهوس
« ظلم الأقارب »
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
1446/3/3
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ – أَيْ: يُسِيئُونَ إِلَيَّ - فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» أَيْ : كَأَنَّمَا تُطْعِمُهُمُ الرَّمَادَ الْحَارَّ ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْأَلَمِ بِمَا يَلْحَقُ آكِلَ الرَّمَادِ الْحَارِّ مِنَ الْأَلَمِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ يُبَيِّنُ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ ظُلْمِ الأَقَارِبِ، وَهُوَ الإِسَاءَةُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ.
تَأَمَّلُوا قَوْلَ هَذَا الرَّجُلِ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-: «إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ» فَهَذَا الرَّجُلُ يَحْكِي وَاقِعَ بَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، الَّذِي امْتَلأَ قَلْبُهُ غَيْظًا وَحِقْدًا عَلَى أَقَارِبِهِ حَتَّى قَاطَعَهُمْ وَعَادَاهُمْ، وَفِي الْمَحَاكِمِ قَاضَاهُمْ؛ بَلْ أَنَّهُ أَوْصَى أَوْلاَدَهُ بِمُقَاطَعَةِ أَقْرِبَائِهِ فَضْلاً عَنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي أَفْرَاحِهِمْ وَأَتْرَاحِهِمْ أَوِ الصَّدَقَةِ عَلَى فَقِيرِهِمْ؛ وَرُبَّمَا قَدَّمَ غَيْرَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الصِّلاَتِ الْخَاصَّةِ، الَّتِي هُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يَجْتَمِعُ بِأُخْتِهِ أَوْ أَخِيهِ حَتَّى بِحُضُورِ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا، مِمَّا جَعَلَهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ لِكَيْلاَ يُقَابِلَ أَحَدُهُمُ الآخَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يُسَلِّمُ عَلَى قَرِيبِهِ سِنِينَ عَدِيدَةً وَأَزْمِنَةً مَدِيدَةً! لأَجْلِ أَمْرٍ تَافِهٍ حَقِيرٍ، يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ دُنْيَوِيٍّ، أَوْ بِسَبَبِ وِشَايَةِ نَمَّامٍ، أَوْ بِسَبَبِ رِسَالَةِ جَوَّالٍ ،أَوْ مُنَاسَبَةٍ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهَا ، أَوْ بِسَبَبِ زَلَّةِ لِسَانٍ، أَوْ شِجَارٍ بَيْنَ الأَطْفَالِ، أَوْ سُوءِ خُلُقٍ مِنْ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ، أَوْ غَيْرِهَا؛ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ صَنِيعِ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ وَمَكْرِهِ وَتَحْرِيشِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [الإسراء:53]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» [رواه مسلم].
فَاحْذَرُوا -عِبَادَ اللهِ- الإِسَاءَةَ وَالْقَطِيعَةَ لأَقَارِبِكُمْ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد:22-23].
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ - : «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» [رواه أبو داود ، وصححه الألباني].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: « تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»
[رواه مسلم].
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلاَمِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ ظُلْمَ الأَقَارِبِ لَهُ وَقْعٌ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ؛ وَكَمَا قِيلَ:
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
وَلَكِنَّ الْمُسْلِمَ الصَّالِحَ النَّاصِحَ يُقَابِلُهُ بِالإِحْسَانِ إِلَى أَقَارِبِهِ؛ فَيَعْفُو عَنْ زَلاَّتِهِمْ، وَيَلْتَمِسُ الْعُذْرَ فِي أَخْطَائِهِمْ، وَيَتَوَاضَعُ لَهُمْ، وَيَقْبَلُ اعْتِذَارَهُمْ، وَيَبْذُلُ الْمُسْتَطَاعَ لَهُمْ مِنَ الْخِدْمَةِ بِالنَّفْسِ، أَوِ الْجَاهِ، أَوِ الْمَالِ، وَيُرَاعِي أَحْوَالَهُمْ، وَيَفْهَمُ نَفْسِيَّاتِهِمْ، وَيُنْزِلُهُمْ مَنَازِلَهُمْ؛ وَيَصِلَهُمْ إِذَا قَطَعُوا ، وَيَحْرِصُ عَلَى كَسْبِ الأُجُورِ الْعَظِيمَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ بِهِمْ مِنْ بَسْطِ الرِّزْقِ، وَطُولِ الْعُمْرِ وَالْبَرَكَةِ فِيهِمَا؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [متفق عليه].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦ ].
وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم ].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
المرفقات
1725418014_ظلم الأقارب.doc
1725418024_ظلم الأقارب.pdf
المشاهدات 2178 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا
سعيد الشهراني
خطبة مميزة جزاك الله خير
تعديل التعليق