سيرة الشاب الشهيد وأول سفير في الإسلام

عبدالرحمن السحيم
1445/06/29 - 2024/01/11 23:45PM

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَفَرِّدِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْجَمَالِ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الْمَآلِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ –عباد الله- حَقَّ التَّقْوَى، فَأَعْمَارُكُمْ تَمْضِي، وَآجَالُكُمْ تَدْنُو (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)

أيها المسلمون: لقد كان صحابةُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، خيرَ البشر على الإطلاق بعد الأنبياءِ والرسلِ -عليهم الصلاة والسلام-؛ أسلموا فَحسُن إسلامهم، وابتُلوا بالسراء والضراء والشدة والرخاء حتى كانوا خير المؤمنين الذين حملوا لواء الدعوة إلى الله بكل إخلاص وأمانة، وما زلنا في القرن الخامس عشر نترحم عليهم، ونترضى عنهم؛ لما بذلوه في سبيل الإسلام.

ومن هؤلاء النفر النبلاء: مصعب بن عمير، الداعيةُ المجاهد، والصحابيُ المناضل، سفيرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وحاملُ لواء الدعوة إلى الأوس والخزرج قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

معاشر المسلمين: بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوته سرًّا والمشركون يتربصون به الدوائر، واتخذ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من دار الأرقم بن أبي الأرقم -رضي الله عنه- ملتقى لأصحابه، يلتقي فيها مع القلة المستضعفين الذين آمنوا به على خوفٍ من كفار قريش أن يعلموا بهم فيكيدوا لهم كيداً.

قدم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- مستخفياً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم فأسلم وكتم إسلامه؛ خوفاً من أمّه وقومه.

ولما علم به قومه، غضبوا عليه وأذوه، حتى فرَّ بدينه وهاجر إلى الحبشة.

كان مصعب بن عمير -رضي الله عنه- فتى مكة؛ شباباً وجمالاً، وكان أبواه يحبانه حباً عظيماً، وكانت أمه من أعظم أهل مكة، تكسوه أحسن الثياب، وأجمل اللباس، وكان أعطر أهل مكة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكره ويقول: "ما رأيت بمكة أحسن لِمّةً، وأرق حُلّة، ولا أنعم من مصعب بن عمير" (رواه الترمذي). وكانت أمُّه شديدةَ الكَلَفِ به، والإغداقِ عليه

فلما أسلم انخلع من ذلك كله، وأصابه من الشدة والتعذيب والبلاء ما غيّر لونَه، وأذهب لحمَه، ونهك جسمَه، حتى إن جِلْدَهُ لَيَتَطَايَرُ عَنْهُ تَطَايُرَ جِلْدِ الحَيَّةِ، رُوي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر إليه، وعليه فروةٌ قد رقعها، فبكى صلى الله عليه وسلم-؛ لِما كان يعرف من نعمته.

وقد حلفت أمُّهُ -حين أسلم وهاجر- ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف في الشمس حتى تسقط مغشياً عليها، وكان بنوها يحشون فاها بالأعواد فيصبون فيه الطعام حتى لا تموت, وهو ثابت لم يصده ذلك عن دينه؛ إذ دين المرء هو رأس ماله، وسبب فلاحه وخسرانه، فإن تعارض مع الدين أهل أو صحبة أو مال أو منصب أو غيره قدّم المؤمن حفظ دينه على غيره.

خرج مصعب بن عمير من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها؛ حبًا لله ورسوله ورغبة للخير الباقي. وأصبح ذلك الفتى الغنيُّ المتأنقُ لا يُرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً ويجوع أياماً، ولكن روحه الممتلئة بسمو العقيدة كانت قد جعلت منه إنساناً آخر يملأ الأعين إجلالاً وإكبارًا.

لما دخل مصعب في الإسلام ارتفع ذكره، وعلا قدره وحاز الشرف بما عنده من تقوى وإيمان؛ إذ هو ميزان الفضل عند الرحمن -سبحانه-.

هذه الصفات كلها جعلت النبيَ -صلى الله عليه وسلم- يختاره لمهمة عظيمة؛ بكونه سفيره إلى المدينة، وذلك بعد بيعة العقبة، لمّا فشا الإسلام في دور الأنصار أرسلوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلبون منه أن يرسل لهم رجلاً يُفقههم في الدين ويقرئهم القرآن. فأرسل -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ، فلما قدم المدينة نزل على أسعد بن زرارة، وكان يأتي الأنصار في دورهم في عوالي المدينة فيدعوهم، فيسلم الرجل والرجلان حتى ظهر الإسلام وفشا في المدينة، ثم جَمّع بهم مصعبٌ في دار سعد بن خيثمة، فكان أول من جمع في الإسلام جمعة -رضي الله عنه وأرضاه-. وهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، واستبشر المسلمون في المدينة بقدومه، واستمر مصعب يدعو إلى الله، وينشر الإسلام، سيفاً في يد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجهه حيث شاء.

ووقعت معركة أحد في العام الثالث من الهجرة النبوية، وشارك فيها مصعب بن عمير مشاركة الأبطال، وأبلى فيها بلاء المؤمنين الصابرين المحتسبين، وحمّله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- راية المسلمين، وثبت مصعب -رضي الله عنه- مع القلة المؤمنة التي أحاطت بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ودافعت المشركين عنه لما تخلخلت صفوف المسلمين وأصبحت الجولة للمشركين، وبقي اللواء في يد مصعب يمسكه بقوةٍ وثبات ويدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى قُتِلَ شهيدا.

قَتَلَهُ ابْنُ قَمِئَةَ اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ يَظُنُّهُ رَسُوْلَ اللهِ، وقد نزلت في مصعب وصحبه (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) قال خباب بن الأرت -رضي الله عنه: "هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئاً كان منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد لم يترك إلا نمرةً كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر، أو قال: ألقوا على رجله من الإذخر". (رواه البخاري). فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مثواه، وجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.    أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ–عباد الله- حَقَّ التَّقوَى وراقبوه في السر والعلانية؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

أيها الكرام: هذا نموذج من سير سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- فحري بنا أن نقرأ ونستمع لسيرهم وأن ننشرها في مجالسنا وأن نقتفي أثرهم وهديهم.   

لقد آثر هذا الصحابي الجليل الحياة الآخرة على الدنيا الفانية؛ إذ كان في الجاهلية يعيش حياة الغنى والنعومة ، لكنّه ما إنْ عَلِمَ أنَّ الإسلام حقٌ حتى دخل فيه راجياً ما عند الله، واثقاً بموعوده، متحملاً الفقر والبلاء؛كل ذلك حباً لله ورسوله ورغبة فيما أعده الله لعباده المتقين الصادقين

إذا شَامَ الفتىَ بَرْقَ المعاني *** فَأهونُ فائتٍ طيب الرُّقادِ

يأتي مصعب بن عمير يوم القيامة وفي ميزان حسناته عشرات الصحابة الذين أسلموا على يديه، فأنت كم أسلم أو اهتدى شخص على يديك أو كنت سببًل لذلك وقد قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "فو الله لأن يهدي الله بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْر النَّعَمِ". (رواه البخاري).    أَيُّهَا الشَّبَابُ:

أَيْنَ مَنْ يَقْتَدِي بِمُصْعَبَ وَأَيْنَ مَنْ يَنْتَهِجُ نَهْجَ الصَّحَابَةِ عِلْمَاً وَعَمَلاً وَدَعْوَةً؟ أَيْنَ مَنْ يتمسك بدينه ويَنْتَشِلُ نَفْسَهُ مِنَ الانْغِمَاسِ فِي الشَّهَوَاتِ الْمحرمةِ والشبهات المضللة؟ أَيْنَ مَنْ يَرْتَقِي بِنَفْسِهِ إِلَى ذُرَا الْمَجْدِ  وَمَعَالِي الْأُمُورِ طَالِبَاً لِلْعِلْمِ، مُعَلِّمَاً لِلنَّاسِ الْخَيْرَ؟ أنتم لها بإذن الله، استقيموا واستعينوا بالله واستغلوا الوسائل الحديثة في خدمة الدين ونشر الخير بين الناس.   

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً.  اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.

اللهم انصر إخواننا في فلسطين وفي كل مكان، اللهم اشف مريضهم وداوي جريحهم وتقبل قتيلهم وأمنّ خائفهم وأطعم جائعهم، وانصرهم على عدوهم.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،

اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.

اللَّهُمَّ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إنَّكَ كُنْتَ غَفَّاراً، فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَاراً. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

عباد الله! اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

1705005941_مصعب-بن-عمير-رضي-الله-عنه.pdf1.pdf

1705005951_مصعب-بن-عمير-رضي-الله-عنه.doc

المشاهدات 705 | التعليقات 0