رمضان دروس وحكم

الخطبة الأولى : رمضان دروس وحكم

   الحَمْدُ للـهِ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ، فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الصِّيَامَ؛ لِيُطَهِّرَهُمْ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلا اللـهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، يَقْبَلُ مِنْ عِبَادِهِ الخَالِصَ مِنَ الطَّاعَاتِ، ويَرفَعُ بِالصِّيامِ لَـهُمُ الدَّرَجَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَفضَلُ مَنْ صَلَّى وصَامَ وَأَدَّى شَعائِرَ الإِسلاَمِ، r وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اهْـتَدَى بِهَدْيِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.                       أَمَّا بَعْدُ...

فأوصيكم ونفسي بتقوى اللـهِ فاتَّقُوا اللـهَ الَّذِي بَلَّغَكُمْ هَذَا الشَّهْرَ الفَضِيلَ، وَمَنَّ عَلَيْكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الفَضْـلِ الجَلِيلِ وسلوا اللـهَ القبولَ والتوفيقَ.

عن طلحةَ t: أنَّ رَجُلَينِ قَدِما على رَسولِ اللـهِ r وكان إسلامُهما جَميعًا، وكان أحَدُهما أشَدَّ اجتِهادًا مِن صاحِبِه، فغَزا المُجتَهِدُ منهما، فاستُشهِدَ، ثم مَكَثَ الآخَرُ بَعدَه سَنةً، ثم تُوُفِّيَ، قال طَلحةُ: فرأيتُ فيما يَرى النَّائِمُ كأنِّي عِندَ بابِ الجَنَّةِ إذا أنا بهما وقد خرَجَ خارِجٌ مِنَ الجَنَّةِ، فأذِنَ للذي تُوُفِّيَ الآخِرَ منهما، ثم خَرَجَ فأذِنَ للذي استُشهِدَ، ثم رَجَعا إليَّ فقالا لي:

ارجِعْ؛ فإنَّه لم يَأْنِ لكَ بَعدُ. فأصبَحَ طَلحةُ يُحدِّثُ به الناسَ، فعَجِبوا لذلك، فبلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ r، فقال: مِن أيِّ ذلك تَعجَبونَ؟ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، هذا كان أشَدَّ اجتِهادًا، ثم استُشهِدَ في سَبيلِ اللـهِ، ودخَلَ هذا الجَنَّةَ قَبلَه. فقال: أليس قد مَكَثَ هذا بَعدَه سَنةً؟ قالوا: بلى. وأدرَكَ رَمَضانَ فصامَه؟ قالوا: بلى. وصلَّى كذا وكذا سَجدةً في السَّنةِ؟ قالوا: بلى. قال رَسولُ اللـهِ r فلَمَا بَينَهما أبعَدُ ما بَينَ السَّماءِ والأرضِ. ابن ماجه . وصححه أهلُ العلم .

عباد الله: اعلَمُوا أَنَّ الصِّيَامَ ليس تَشْرِيعًا سَاقَهُ التَّكْلِيفُ مِنْ غَيْرِ حِكْمَةٍ وَسَبَبٍ، بَلْ هُوَ تَشْرِيعٌ وَرَاءَهُ قَصْدٌ وَهَدَفٌ، إنَّه ركنٌ من أركانِ الإسلامِ ومبانيهِ العِظامِ فهو عبادةٌ للـهِ تعالى يَتقرَّبُ العبدُ فيه إلى ربِّه بتْركِ محبوباتِه ومشتَهَيَاتِه منْ طعامٍ وشرابٍ ونِكاحٍ، فيظْهرُ بذلك صِدقُ إيْمانِه وكمالُ عبوديتِه للـهِ وقوةُ مَحَبَّتهِ له ورجائِه ما عندَه.

إِنَّهُ دَوْرَةٌ يُنَمِّي فِيهَا المُؤمِنُ إِرَادَتَهُ، ويُقَوِّي عَزِيمَتَهُ، لِيَكُونَ إِنْسَانًا فَاضِلاً قَوِيَّ الإِرَادَةِ يَقُودُ نَفْسَهُ ولا تَقُودُهُ، كَيفَ لا؟ وَقَدِ استَطَاعَ وَهُوَ صَائِمٌ الإِمْسَاكَ عَنِ المُبَاحَاتِ؛ لِيَقْوَى عَلَى تَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، فَهَا هُوَ قَد تَرَكَ المَاءَ الزُّلالَ، والطَّعَامَ الحَلالَ؛ استِجَابَةً لأَمْرِ رَبِّهِ، مَعَ أَنَّهُ مُتَاحٌ لَدَيْهِ وَأَمَامَ عَينَيْهِ، فَكَيْفَ سَيَقْرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيئًا حَرَّمَهُ اللـهُ عَلَيْهِ؟

عباد الله: إنَّ من حكمِ الصيامِ أنه سببٌ للتقوى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) إنَّه تَطْهِيرٌ لِلنَّفْسِ وَتَربِيَةٌ، وَإِصْلاَحٌ لَهَا وَتَزكِيَةٌ، فكلما هَمَّ الصائمُ بمعصيةٍ تذكرَ أنه صائمٌ فامتنعَ عنها؛ ويُعينُه على ذلكَ:

أنَّ أبوابَ الجنَّةِ تُفْتَحُ لكثرةِ أبوابِ الخيرِ والعاملين فيها. وفِيهِ تُغْلَقُ أَبْوَابُ الْـجَحِيمِ .

 ومما يُعينُ على التقوى في رمضانَ أنَّ الشياطينَ  تُغَلُّ فِيهِ حتى لا يخلصوا إلى ما كانوا يخلُصونَ إليه في غيرِه، قالَ أهلُ العلمِ: إنَّ الشَّياطينَ إنَّما تُغَلُّ عن الَّذينَ يَعرِفون حَقَّ الصِّيامِ المعظِّمينَ له، ويَقومونَ به على وَجهِه الأكمَلِ، ويُحقِّقونَ شُروطَه وأخلاقَه وآدابَه، أمَّا الَّذي امتنَع عن الطَّعامِ والشَّرابِ، ولم يَعرِفْ للصِّيامِ حَقَّهُ، ولم يَأتِ بآدابِه على وجهِ التَّمامِ،

فليس ذلك بأهلٍ لِتُغَلَّ الشَّياطينُ عنه؛ فيكونُ تصفيدُهم عن أشياءَ دونَ أشياءَ ولناسٍ دونَ ناسٍ.

 ومن حِكَم الصيام: أن القلبَ يتخلى للفكرِ والذكرِ، لأن تناولَ الشهواتِ يستوجبُ الغفلةَ، وربما يُقَسِّي القلبَ ويُعْمِي عن الحقِّ. إنَّ النفسَ إذا جاعت وعطِشَت صفا القلبُ وَرَقَّ، وإذا شبعت ورويت عَمِيَ القلبُ. قال r : «ما ملأ ابنُ آدمَ وِعَاءً شراً من بطنٍ ، بحسب ابنِ آدمَ لٌقيماتٌ يُقِمن صُلْبَه ، فإن كان لا محالةَ فثلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفِسِه » أحمد وغيره.

لقَدْ أَصْبَحَ الصِّيَامُ الآنَ عِلاجًا لأَسقَامٍ مُزْمِنَةٍ وَعِلَلٍ مُستَعْصِيَةٍ؛ فَلا يَكَادُ يَذْهَبُ مَرِيضٌ إِلَى طَبِيبٍ إِلاَّ وَيَأْمُرُهُ بِالحِمْيَةِ، وَيُوصِيهِ بِالاحتِيَاطِ فِي الأَطْعِمَةِ، وهذهِ مِنْ فَوَائِدِ الصياِم الصَحِيَّةِ.

ومن حكمِ الصيام: أن الغنيَّ يعرفُ به قدرَ نعمةِ اللـهِ عليه بالغنى حيثُ أنعمَ اللـهُ تعالى عليه بالطعامِ والشرابِ وغيرها، وقد حُرِمَها كثيرٌ من الخلقِ فيحمدُ اللـهَ على هذه النعمةِ ويشكُرُه على هذا التيسيرِ ويذكرُ بذلك أخاه الفقيرَ فيجودُ عليه بالصدقةِ يكسو بها عورتَه ويسدُّ بها جوعتَه فأحسنوا (إنَّ الله يُحبُ المحسنين)

 

إِخْوَةَ الإِيمانِ: لِكُلِّ عِبَادَةٍ آدَابٌ، بِرِعَايَتِهَا تَتَحَقَّقُ حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّـتِهَا، وَتُجْنَى ثِمَارُهَا وَقَدْ قَالَ r : ( الصَّوْمُ جُنّةٌ )،أي: وِقَايَةٌ وَسِّـتْرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّومُ كَذَلِكَ لأَنَّ فيه إِمْسَاكَ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَفِطَامَهَا عَنْ سَيِّئِ مَأْلُوفَاتِهَا، فَهُوَ لِجَامُ المُتَّـقِينَ، وَجُنَّةُ الأَبْرَارِ وَالمُقَرَّبِينَ (فنعمَ أجرُ العاملين)، فإذا أطلقَ المرءُ لنفسِه عنَانَها أوقعتهُ في المهالكِ وإذا ملَكَ أمرَها وسيطرَ عليها تمكَّنَ من قيادتِها إلى أعلى المراتبِ وأسنى المطالبِ فَمَنْ كَانَ صَائِمًا حَقًّا فَلْيَكُفَّ نَفْسَهُ عَنِ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَلْيُمْسِكْ لِسَانَهُ عَنِ الأَيمَانِ الفَاجِرَةِ وَالأَخْبَارِ الكَاذِبَةِ، فاللسانُ ضررهُ عظيمٌ ، وخطرهُ جسيمٌ فرحم اللـهُ مسلماً حَبسَ لسانَه عن الخنا، وقيدَهُ عن الغيبةِ والنميمةِ، ومنعَهُ من اللغوِ والحرامِ.

ومن كان صائماً حقاً فليصرفْ سَمْعَهُ عَنِ الأَرَاجِيفِ البَاطِلَةِ وَالإِشَاعَاتِ المُغْرِضَةِ، والنغمةِ المحرمةِ، والكلمةِ الآثمة.

يا أُذْنُ لا تسمعي غيرَ الهدى أبداً : إن استِماعَكِ للأوزارِ أوزارُ

ومن كان صائماً حقاً فعليه أن ْيَغُضَّ بَصَرَهُ عَنِ المحارمِ والمَمْـنُوعَاتِ فصيامُ العينِ غضُها عن الحرام، وإغماضُها عن الفحشاءِ، وإغلاقُها عن المناهي،

فالعينُ رائدٌ إذا أُرسلَ صاد، وإذا قُيدَ انقاد، وإذا أُطلقَ وقع بالقلبِ في الفساد (إنَّ اللـهَ خبيرٌ بما يصنعون ). 

إنَّ للقلبِ صياماً وأيُ صيام ؟ فصوم قلبَك عن الشركِ والكبرِ والحسدِ والغلِّ والبغضاء، وعن العُجبِ وهو أن تتصورَ كمالَ نفسِك وأنَّك أفضلُ من غيرِك وأن عندكَ من المحاسنِ ما ليس عندَ الآخرين ( ثَلاَثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوىً مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْـمَرْءِ بِنَفْسِهِ...) رواه البزار وغيره.

ألا فَاتَّقُوا اللـهَ -عِبَادَ اللـهِ-، وَصُونُوا صَوْمَكُمْ، وَاحفَظُوا جَوَارِحَكُمْ، وَطَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ (لعلكم تتقون) بارك الله لي..

الخطبة الثانية الصيام دروس وحكم

الحَمْدُ للـهِ...  أَمَّا بَعْدُ : فَيَا عِبَادَ اللهِ:

عن جابرٍ t قال: صعِد النَّبيُّ r المنبرَ ، فقال : آمين ، آمين ، آمين ، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك ، فقال : أتاني جبريلُ، فقال : رغِمَ أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له ، قُلْ : آمين ، فقلتُ : آمين...) ابن خزيمةَ وغيرُه .

 إنَّ عَلَى الصَّائِمِ أَنْ يَحْـفَظَ لِسَانَهُ وبصرَهُ ولسانَهُ وقلبَهُ عَنْ سَيِّئِ الأَخْلاقِ وَمَسَاوِي الصِّفَاتِ، قَالَ r: ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للـهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )،

فَإِذَا لَمْ يَزَلِ الصَّائِمُ مُتَّبِعًا لِلْهَوَى وَالرَّغَبَاتِ، قَائِمًا عَلَى المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ، فَلْيَعْـلَمْ أَنَّهُ فِي صُورَةِ صَائِمٍ، وَفِي الحَقِيقَةِ جَائِعٌ عَطْشَانُ.

إِذَا لَم يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَاوُنٌ    

وَفِي بَصَرِي غَضٌّ وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ

فَحَظِّي إِذَنْ مِنْ صَومِيَ الجُوعُ وَ الظَّمأ   

 فَإِنْ قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَومِي فَمَا صُمْتُ

عباد الله: هناك تنبيهاتٌ لبعض الأمورِ التي قد يَقَعُ فِيهَا بَعْضُ الصَّائِمِينَ فَمِنْ ذَلِكَ : التَّهَاوُنُ فِي أداءِ الصَّـلَواتِ المفروضةِ بالنومِ عنها وتأَخيرِها أو تركِها وهذا أمرٌ عظيمٌ وخطرٌ كبيرٌ ، لايليقُ أن يقعَ من صائمٍ حقاً.

ومن ذلك كذلكَ التهاونُ في صَلاَةِ التَّرَاويحِ أَوْ أَدَاؤُهَا بِشيءٍ مِنَ العَجَلَةِ وَكَأنَّهَا حِمْـلٌ ثَقِيلٌ يجبُ التخلصُ منه مع أنَّ البعضَ منَّا يَقضي لياليَ رمضانَ باللعبِ واللهوِ وما لا فائدةَ فيه ولا منه ، ومع ذلك يتثاقلُ عن التراويح . ومن تذكَّرَ أنَّ رمضانَ (أياماً معدوداتٍ) فإنَّه سيجاهدُ نفسَه لاغتنامِ الليالي والأيامِ، قال r(مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيْمَانًا وَاحْـتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) (من قام مع الإمامِ حتى ينصرفَ كتب اللـهُ له قيامَ ليلةٍ ).

 

وَمِنْ التنبيهاتِ كذلكَ: تَرْكُ طَعَامِ السُّحُورِ، قال r: (تَسَّحَرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَركَةً) خ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَجِّـلُ الْسَّحُورَ وَالسُّنَةُ تَأخِيرُهُ مَا لَمْ يُخْشَ طُلُوعُ الفَجْرِ (لاَ يَزَالُ الْنَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّـلُوا الإِفْطَارَ وَأخَّرُوا الْسُّحُورَ) م .

عباد الله: مما يُنبه عليه في رمضانَ أن تحتسبَ المرأةُ عملَها في بيتِها وخصوصاً في إعدادِ الطعامِ فإنَّ ذلك من الأعمالِ التي تُؤجرُ عليها ويُغفلُ عنه، فعن أنسٍ قال: كُنَّا مع النبيِّ r أكْثَرُنَا ظِلًّا الذي يَسْتَظِلُّ بكِسَائِهِ، وأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شيئًا،

وأَمَّا الَّذِينَ أفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وامْتَهَنُوا وعَالَجُوا، فَقالَ النبيُّ r : ذَهَبَ المُفْطِرُونَ اليومَ بالأجْرِ ).خ.

 ثم وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا ...

 

المرفقات

1711013413_رمضان دروس وحكم.docx

1711013413_رمضان دروس وحكم.pdf

المشاهدات 821 | التعليقات 0