داء التجربة

سليمان بن خالد الحربي
1445/08/01 - 2024/02/11 21:14PM

داء التجربة

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ، أيها المسلمون،{حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلمونَ} [آل عمران:102].

معشرَ الناس: يقف المرءُ متأملًا ومتعجبًا من قصة أبينا آدم -عليه السلام- أول ما خلقه الله ثم أدخله الجنة، تيك الدار العظيمة الجميلة، وقال له -جل وعلا-: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 117- 119]، ضَمِنَ له استمرارَ الطعامِ والشرابِ، والكسوةِ، والماءِ، وعدم التعب والنصب، وذلك أن الإنسان بحَّاثٌ متطلِّعٌ لأكلِه وصحتِه ولباسِه وراحتِه، وهذه الأشياءُ هي النفقاتُ الواجبة من الزوج على زوجته، ولهذا خصه الله فقال: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}، ولم يقل فتشقيانِ؛ لأن الزوجَ هو الموكلُ بالنفقة، لكن إبليس جاءه من طريق، للأسف ما زال يستخدمه معنا حتى الآن.

ونحن لم نستفدْ من قصة أبينا عليه السلام، ألا وهو التصوُّرُ الكاذبُ والاعتقادُ الفاسدُ، وهو أن تُقْبِلَ على المعصية وفي نفسك تصورٌ غيرُ صحيحٍ، أتدرون ماذا قال إبليس لأبينا عليه السلام؟ قال له: {يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه:120].

أتاه بمنطقٍ كاذبٍ، فمن قال إن هذه الشجرة تورث الخُلْدَ؟ ولكنَّها إحدى كذبات إبليس الطريد، ولو أن آدم-عليه السلام- تذكر أنه في نعيمٍ عظيمٍ، وأن الأكل من هذه الشجرة فيه مخالفةٌ لأمر الله، وأنه سيبدله بعد الراحة شقاء لما أكل، ولكن كما قال الله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلم نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، أي: ولقد وصَّينا آدمَ وأمرناه، وعَهِدنا إليه عهدًا ليقومَ به، فالتزمَه، وأذعنَ له وانقادَ، وعزمَ على القيام به، ومع ذلك نسي ما أُمِرَ به، وانتقضت عزيمته المحكمة، فجرى عليه ما جرى، فصار عبرةً لذريته، ومعنى: {وَلم نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}، قال ابن السَّائِب: «أي حَزْمًا»، وقال قَتَادَةُ: «صبرًا»([1]).

فذكر الله لنا في هذه القصة العجيبة أمرين؛ الأول: سبب الوقوع في المعصية، والثاني: كيفية التخلُّصِ منها، أما سببُ الوقوع في المعصية فهو التخيُّل الكاذب عند الوقوع في المعصية، فجلساءُ السوء مثلًا يقولون لصاحبهم لم لا تأكل هذه الحبةَ من المخدرات مرة واحدة وتجرِّب مفعولها؟ فهي تشرح الصدر وتؤنس الخاطر، وإذا لم تعجبك فلا تأكلها مرة ثانية، هنا بدأ التصوير الكاذب، من قال إنك إذا أكلتها مرة سيكون بيدك القرارُ لعدم أكلها مرة ثانية؟ أبدًا الأمر إلى حد كبير خرج عن سيطرتك وإرادتك، فالجسم إذا دخلته مثل هذه السموم بدأ بطلبها، ولو لم يكن كذلك لما رأيت الشباب يتهافتون عليها مع علمهم بضررها.

إنها آفةُ التجرِبة، كم أسقطت من عفيفٍ! وكم أسقطت من شاب! أكثرُ الشباب كان محصنًا نفسه عن الدخان سنين طويلة، ولا تفكر نفسه، بل لم تحدثه بشربه، فإذا ما دخل عليه سرطان التجربة، إذا به يسقط سقوطًا، ويتهافت كما يتهافت العود في النار، أرأيتم الشاب العفيف الذي عاش حينًا من الدهر وهو لم يعرف المواقع الإباحية والصور الفاضحة ولا المعاكسات الهاتفية، ويأتيه الشيطان والنفس من هذا المدخل لم لا تجرب؟ جرب مرة واحدة وكفى، انظر ثم فارقها، والسؤال من قال لك ومن كذب عليك أنك بعد التجربة ستستطيع أن تتخلص منها ولن ترجع إليها؟

ما أصعبها! واللهِ لو تذكر هذا الشاب أنه الآن يعيش بنعمة عظيمة وهي راحة القلب، وأن النظر ولو مرة واحدة إلى مثل هذه المواقع هي السقطة الكبيرة، لامتنع كثيرٌ من الناس عن رؤية هذه الصور، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما راو الحاكم وصححه من حديث حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومَةٌ، فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللهِ أَثَابَهُ -جَلَّ وَعَزَّ- إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ»([2]).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالمنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

مَعْشرَ الإخوةِ: مَنْ تأمَّلَ أحوالَ الرجالِ والنساءِ فيما ابْتُلوا به، ويجاهدون أنفسهم في تركه من المعاصي، وجد أن كثيرًا منهم كان يعرف حُرمةَ هذه المعصيةِ، ويعرف أثرَها النفسي والاجتماعي، ولكنها كانت غلطةَ تَصَوُّرٍ وآفَةَ تجرِبةٍ، وتأملوا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاريُّ ومسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- إِنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ»([3]).

 قال ابن حَجر في الفتح: (أَيْ فَإِنَّهُ يُقَوِّيه وَيُمَكِّنهُ مِنْ نَفْسِه حَتَّى تَنْقَادَ لَهُ وَيُذْعِن لِتَحَمُّلِ الشِّدَّة، فَعِنْد ذَلِكَ يَكُون اللَّه مَعَهُ فَيُظْفِرهُ بِمَطْلُوبِهِ)([4]).

 وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: (لما كَانَ التَّعَفُّفُ يَقْتَضِي سَتْرَ الْحَال عَنِ الْخَلْق وَإِظْهَار الْغِنَى عَنْهُمْ، فَيَكُون صَاحِبه مُعَامِلًا لِلَّهِ فِي الْبَاطِن، فَيَقَع لَهُ الرِّبْح عَلَى قَدْر الصِّدْق فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الصَّبْر خَيْرَ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَبْسُ النَّفْس عَنْ فِعْل مَا تُحِبّهُ، وَإِلْزَامهَا بِفِعْلِ مَا تَكْرَهُ فِي الْعَاجِل مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ لَتَأَذَّى بِهِ فِي الْآجِل)([5]).

فنداءً إلى كل شابٍّ لم يسقط في بَراثنِ الدُّخَان والمخدرات والسموم، وإلى كل رجلٍ لم يقع في واقع الشهوةِ المحرمة، وإلى كل شاب حَفِظَ بصره عن النظر إلى الحرام، حافظ على نفسكَ، وإياكَ أن تكون فريسةً للشيطان كما وقع غيرك، واعلم أن كل هؤلاء لو سألتهم عن واقعهم لقالوا لك بحرف واحد نحن في بلاء وحسرة، وأنت في نعمة ومنحة، أفلا يكفي هذا دافعًا لك ومؤنسًا لك، وشافعًا لأن تبقى على استقامتك ومحافظتكَ على حياتك، فكيف إذا كان مع هذا الأجر الجزيل والثواب العظيم لمن ترك الحرام إجلالًا لله واحتسابًا في ثواب الله؟ فإياكَ وداءَ التجرِبة؛ فإنها في أول الأمر تجربةٌ، ثم تكون مهلكةٌ، وأنا الذي جلب المنية طرفه، فمن المطالب والقتيل القاتل؟



([1]) زاد المسير في علم التفسير (3/179).
([2]) أخرجه الحاكم (4/349، رقم 7875).
([3]) أخرجه البخاري (2/534، رقم 1400)، ومسلم (2/729، رقم 1053).
([4]) فتح الباري (11/304).
([5]) المصدر السابق.

المرفقات

1707675263_داء التجربة.docx

المشاهدات 806 | التعليقات 1

.خطبة متميزة جزاك الله خير