خيرُ أيامِ الدُّنيا (فضل عشر ذي الحِجَّة) + تضمين تعميم: سلامة الحُجّاج.
عبدالله الغامدي
الخطبة الأولى:
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} أما بعد:
جاء عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من السَّلف: أنَّ اللهَ عز وجل لما واعدَ موسى -عليه السلام- ليناجيه ويُسمعَه كلامه، أمرَه أن يتهيأ لهذا اللقاءِ العَظيم بأن يصومَ ثلاثين يومًا كاملةً قبل ذلك اللقاء، فصامَ موسى عليه السلام ثلاثين يومًا كما أمره ربه، لكنَّه حينما شعرَ بدنوِّ موعد المناجاة أخذَ نبتةً مِن الأرض فمضغها ليُطيّب بها فمَه مِن آثار الصِّيام، فقال الله له: يا موسى لِم أفطرت؟! فقال موسى -عليه السلام-: يا ربّ، كرهتُ أن أناجيك إلا وفمي طيّب الرّيح! فقال الله -جل جلاله-: أوما علمتَ يا موسى أنَّ خلوفَ فمِ الصّائم أطيبُ عندي من ريح المسك؟! يا موسى ارجع فصُم عشرةَ أيام ثُمّ ائتني! فصامَ موسى -عليه السلام- عشرًا، ثُمّ سمع في تلك العشر صوتَ ملك الملوك جل وعلا، وكلَّمه اللهُ سبحانه فيها تكليمًا.
هذه العَشر الفاضلةُ المباركةُ التي ارتضى الله أن يكونَ فيها لا في غيرها ميعادُ أعظمِ مناجاةٍ في الدُّنيا، قد تتابعَ المفسّرون من السلف على أنّ المراد بها: "العَشرُ الأوائل مِن ذي الحِجّة".
غير أنّ فضيلةَ هذه العشر-أيها الكرام- لم تكن مقتصرة على زمن موسى -عليه السلام- فحسب، بل ظلّت مستمرةً قرنًا بعد قرن، إلى أن جاء نبيُّنا ﷺ بعدَ آلاف السنين من حادثة المناجاة ليخبرنا باستمرار فضيلة هذه الأيام ويقول لنا: (أفضل أيام الدُّنيا: أيام العشر)
تأمَّل إلى أنَّه لم يقل أفضلُ أيامِ السنة، بل ربط أفضليتها بالدُّنيا كُلِّها؛ ليزداد تعظيمنا وتوقيرنا لهذه الأيام.
وحتى نزداد إدراكًا لفضيلة هذه الأيام؛ فاسمع إلى هذا الحديث الذي جاء فيه أحدُ الصّحابة إلى رسول الله ﷺ فقال ذاك الرجل لرسول الله: (دلني على عمل يعدل الجهاد؟ فقال ﷺ: لا أجده! ثُمّ قال ﷺ: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟! قال: ومن يستطيع ذلك؟!)
فكأنّ رسول الله ﷺ أرادَ أن يوصلَ رسالةً واضحةً له أنّه لا يوجد عمل يعدل الجهاد؛ لأنّه لا يمكن لإنسانٍ أن يقومَ فلا يفتر، ويصومَ فلا يفطر!
ولكنَّه ﷺ قد ذكر بعد ذلك فضيلةً واحدةً فقط تُعادل فضل الجهاد، بل رُبّما فاقته في كثيرٍ مِن الأحوال، وذلك حينما قال ﷺ: (ما من أيام العمل الصالح أحبّ إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر)
فقال الصحابة -رضي الله عنهم-: ولا الجهاد في سبيل الله؟! لأنَّهم كانوا يعلمون جيدًا فضيلةَ الجِهاد وأنَّه لا يعدُله عملٌ من الأعمال؛ فأحبُّوا أن يتأكدوا من عموم هذا الفضل؛ فقال ﷺ مؤكدًا على عموم فضيلة العمل في هذه الأيام على كل عمل: (ولا الجهاد في سبيل الله!) ثُمّ استثنى ﷺ حالةً واحدةً فقط، حالةً واحدةً فقط، وهي: (رجل خرج بنفسه وماله ، ثم لم يرجع من ذلك بشيء)
أتدري ما معنى ذلك؟ معناه: أنَّ المجاهد لو أخرج ماله فقط، أو خرج بنفسه فقط، أو خرج بماله ونفسه ولكنه رجع بأحدهما؛ فإنّ الذي يعمل في هذه العشر في بيته أو يتعبّد الله في مسجده؛ يكون أجره أعظم من أجر مَن يُعرّض نفسَه وروحَه كلّ يومٍ لأن تُبذلَ وتُزهقَ في سبيل الله!
ولذلك كان السَّلف يعرفون قيمة هذه العشر ويُعظّمونها؛ فقد كانوا كما نقلَ أبو عثمان النهدي -رحمه الله- عنهم: "كانوا يُعظّمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأَوَّلَ من ذي الحجة، والعشر الأَوَّلَ من المحرم".
ومن صور ذلك الاهتمام والتعظيم من سلفنا لهذه العَشر: "أنَّ سعيد بن جبير -رحمه الله- كان إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا حتى ما يكاد يقدر عليه"
وُروي عنه أنه كان يقول: "لا تُطفئوا سُرجكم ليالي العشر". يشير إلى شدة الاجتهاد في قيام الليل.
ولعلَّك تتساءل -أيها المبارك- عن سرّ فضيلة هذه الأيام على غيرها من سائر أيام السنة، والجواب: أن ربَّنا -سبحانه وتعالى- يختار ما يشاء من الأوقات والأيام؛ ليكون فاضلًا، لكنّ بعضَ العُلماء حاولوا التماسَ علّة تفضيل هذه العشر، ومن جميل التعليلات التي ذكروها، قول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".
فهذه العَشرُ يجتمعُ فيها مِن إمكان فعل أصول العبادات، ما لا يُمكن أن يجتمعَ في غيرها، وهذا يدعونا إلى أن نضربَ في كلِّ عبادةٍ مِن هذه العبادات بنصيبٍ وسَهم؛ لأنّ كُلّ عملٍ صالحٍ في هذه الأيام هو أفضلُ مِن غيره في جميع أيامِ العام وسائر أشهر السنة!
فسابق في هذه العشر بكُلّ ما تقدر من العبادات؛ اجعل لك وردًا من القُرآن، ونصيبًا من الصدقات، وحظًا من الصّيام، وحُجّ البيت إن استطعت. صِل الوالدين والأرحام، وأفشِ السّلام، وأطعم الطعام، وصلّ بالليل والنّاس والنيام، وأحسن إلى الأنام، وافعل كل ما تستطيع في هذه الأيام؛ فما تدري والله أيُّ عملٍ من تلك الأعمال يجعلك ممن يدخل الجنّة بسلام!
لكن مِن بين جميع هذه العبادات الفاضلة هناك عبادةٌ احرص عليها حرصًا زائدًا، وهي مِن أسهل الأعمال كلفةً ومشقةً، ولكنها أعظمها فضيلةً وأجرًا، هذه العبادة هي العبادة الوحيدة التي نصّ عليها النبيُّ ﷺ من بين سائر العمل الصّالح الذي حثّنا عليه في هذه العشر؛ ليدلنا على خصوصيتها وفضلها على سائر العبادات في هذه الأيام، وهي العبادة التي قال عنها في هذا الحديث العظيم: (ألا أنبّئُكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والفضّة، ومن أن تلقَوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟، قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: "ذكرُ الله").
فأكثروا من ذكر الله -أيها الكرام- في هذه العشر؛ اذكروه قائمين وقاعدين، واحمدوه ماشين وراكبين، سبحوه ليلًا ونهارًا، وكبّروه سرًا وجهارًا، فقد "كان ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنهما- يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه توابٌ رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وذريته ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ ما قَدَّمَت لِغَدٍ) أما بعد:
فمن أعظم الأعمال في هذه العشر: حجُّ بيتِ الله الحرام، والأصل أن يبادر المستطيع بالح فقدا قال نبينا ﷺ (مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ) فكيفَ تؤخِّرُ -يا أخي المسلم- أداء ركن من أركان دينك، وأنتَ صحيحٌ قادرٌ الآن، ولا تدري ماذا يعرضُ لكَ في مستقبل الأيام؟!
ومن يسر الله له الحج إلى بيته الحرام ، فليحمد الله على فضله وما وفقه إليه، وليحرص على التفقه في أحكام المناسك ليضبط حجه اقتداء بالقائل ﷺ: (لتأخذوا عني مناسككم).
ولأن الحج سيكون في شدة الحر؛ فحري بالحاج أن يتخذ ما يقيه من الحرارة الشديدة، وأن يتجنب الزحام ومزاحمة الناس، وأن يحرص على كل ما فيه سلامته وسلامة حُجّاج بيت الله الحرام؛ فنبيكم ﷺ قد قال: (لا ضرر ولا ضرار).
فاللهمَّ أنتَ المستعان، وعليك التُّكلان، ومنك الغفران، نستغفرك من جميع ما مضى وكان.
اللهمّ أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهمّ لا تحرمنا خير ما عندك بشرّ ما عندنا
اللهمّ كما وفّقتنا لبلوغ العَشر، فارزقنا فيها عظيم المغفرة والأجر.
اللهمّ يسّر للحُجّاج حجّهم، وتقبّل سعيهم، وأعظم أجرهم
اللهم وفّق وليّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما فيه صلاح العباد والبلاد وعز الإسلام والمسلمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
المرفقات
1717696186_خطبة عشر ذي الحجة.docx
1717696186_فضل عشر ذي الحجة وسلامة الحجاج.pdf