خطبة : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين )

عبدالله البصري
1445/03/13 - 2023/09/28 13:31PM

ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين      14/ 3/ 1445

 

الخطبة الأولى :

 

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ  " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ  "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في مُجتَمَعِنَا عَادَاتٌ حَمِيدَةٌ كَثِيرَةٌ ، يُذكَرُ أَهلُهَا بِخَيرٍ وَعَلَيهَا يُشكَرُونَ ، بَل وَيَكتَسِبُونَ بِهَا الحَسَنَاتِ وَيُؤجَرُونَ ، وَعَادَاتٌ أُخرَى لَيسَت حَسَنَةً وَلا مَقبُولَةً ؛ لأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَن مَنهَجِ العَدلِ وَالوَسَطِ ، وَمَن ثَمَّ فَهِيَ لا تُرضِي اللهَ سُبحَانَهُ ، وَلا يَحمَدُهَا الصَّالِحُونَ مِن عِبَادِهِ وَلا يُقِرُّهَا العُقَلاءُ . أَجَل أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لَدَينَا مَورُوثَاتٍ مُخَالِفَةً لِلصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، لَكِنَّهَا مَعَ كَثرَةِ اعتِيَادِ النَّاسِ عَلَيهَا وَتَمَدُّحِهِم بِهَا مِن غَيرِ استِنكَارٍ مِن أَهلِ الدِّينِ وَلا بَذلِ نُصحٍ مِنَ العُقَلاءِ ، انتَشَرَت وَرَاجَت وَأُقِرَّت ، حَتى غَدَت كَأَنَّهَا هِيَ عَينُ الصَّوَابِ ، وَحَتى صَارَ مَن يُظهِرُهَا هُوَ المَمدُوحَ المُثنَى عَلَيهِ ، وَمَن يُجَانِبُهَا هُوَ المَذمُومَ المُقَلَّلَ مِن شَأنِهِ . وَمِن تِلكَ العَادَاتِ الَّتي جَعَلَ النَّاسُ يُقَلِّدُ بَعضُهُم فيهَا بَعضًا ، وَيَتسَابَقُونَ إِلَيهَا وَيَتَمَادَحُونَ فِيمَا بَينَهُم بِهَا ، دُونَ تَفكِيرٍ في ضَرَرِهَا وَلا تَأَمُّلٍ لِسُوءِ عَوَاقِبِهَا ، الإِسرَافُ في الأَكلِ وَالشُّربِ ، وَالمُبَالَغَةُ في طَبخِ الأَطعِمَةِ وَإِعدَادِ الأَشرِبَةِ ، وَتَضخِيمُ الوَلائِمِ وَتَكثِيرُ أَصنَافِ المَأكُولاتِ وَأَلوَانِ المَشرُوبَاتِ فِيهَا ، دُونَ حَاجَةٍ تَدعُو إِلى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيءٌ تَطلُبُهُ عُيُونٌ مَخدُوعَةٌ بِالمَظَاهِرِ ، مُبتَلًى أَصحَابُهَا بِالتَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ ، قَدِ استَخَفَّتهُم أَلسِنَةٌ تَتَحَدَّثُ ، وَغَرَّتهُم أَقلامٌ تَكتُبُ ، وَخَدَعَتهُم أَجهِزَةٌ تُصَوِّرُ وَوَسَائِلُ تَنشُرُ ، وَأَبعَدَتهُم عَنِ الصِّرَاطِ وَصَرَفَتهُم عَنِ الصَّوَابِ أَشعَارٌ تُنشَدُ وَقَصَائِدُ تُروَى ، يُظهَرُ فِيهَا أَصحَابُ الإِسرَافِ وَالتَّبذِيرِ بِمَظهَرِ الكُرَمَاءِ ، وَيُبرَزُ المُبَالِغُونَ في إِهدَارِ النِّعَمِ عَلَى أَنَّهُم هُمُ الأَجوَادُ الأَسخِيَاءُ ، وَيُدخَلُونَ في التَّارِيخِ عَلَى أَنَّهُم هُمُ الرِّجَالُ المَشهُودَةُ فِعَالُهُمُ ، المَحمُودَةُ صِفَاتُهُم وَخِصَالُهُم ، مِمَّا يَؤُزُّ المُجتَمَعَ المَخدُوعَ إِلى الاستِمرَارِ في غَيِّهِ دُونَ وَعيٍ بِمَخَاطِرِ الإِسرَافِ ، وَالمُضِيِّ في ضَلالِهِ بِلا تَفكِيرٍ في عَوَاقِبِ التَّبذِيرِ ، وَيَظَلُّ الجَمِيعُ سَادِرِينَ غَافِلِينَ ، مُتَنَاسِينَ سَيِّئَ النَّتَائِجِ وَمُرَّ الثَّمَرَاتِ ، الَّتي لا تُصِيبُ الأَفرَادَ الوَاقِعِينَ في الخَطَأِ فَحَسبُ ، وَلَكِنَّهَا تَعُمُّ بِخَطَرِهَا المُجتَمَعَ كُلَّهُ في حَاضِرِهِ وَمُستَقبَلِهِ ، وَتُصيِبُهُ في دِينِهِ وَتُضِيعُ دُنيَاهُ وَآخِرَتَهُ ، قال سبحانه : " وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ "

إِنَّ العَاقِلَ أَيُّهَا العُقَلاءُ ، يَحكُمُهُ قَبلَ عَقلِهِ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ ، إِيمَانُهُ بِأَنَّهُ مُستَخلَفٌ عَلَى مَا في يَدِهِ ، وَيَقِينُهُ أَنَّ مُلكَهُ لِمَا يَملِكُ ، لَيسَ مُلكًا مُطلَقًا يُسَوِّغُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ دُونَ حُدُودٍ تَردَعُهُ وَلا ضَوَابِطَ تَمنَعُهُ . نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ العَاقِلَ يَعلَمُ أَنَّهُ مَخلُوقٌ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ ، مُستَخلَفٌ في هَذِهِ الأَرضِ لِعِمَارَتِهَا وَبِنَائِهَا وَإِصلاحِهَا ، لا لِتَدمِيرِهَا وَهَدمِهَا وَإِفسَادِهَا ، قَالَ تَعَالى : " وَلا تُفسِدُوا في الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِهَا " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " وَكُلُوا وَاشرَبُوا وَلا تُسرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسرِفِينَ " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " وَلا تَجعَلْ يَدَكَ مَغلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبسُطْهَا كُلَّ البَسطِ فَتَقعُدَ مَلُومًا مَحسُورًا " وَقَالَ في وَصفِ عِبَادِ الرَّحمَنِ : " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لم يُسرِفُوا وَلم يَقتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَامًا  "وَقَالَ تَعَالى : " وَلا تُبَذِّرُ تَبذِيرًا . إِنَّ المُبذِّرِينَ كَانُوا إِخوَانَ الشَّيَاطِينَ وَكَانَ الشَّيطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا " وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " كُلُوا وَاشرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالبَسُوا ، مِن غَيرِ إِسرَافٍ وَلا مَخيلَةٍ " أَخرَجَهُ أَحمَدُ وَالنَّسَائيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُم ثَلاثًا : قِيلَ وَقَالَ ، وَإِضَاعَةَ المَالِ ، وَكَثرَةَ السُّؤَالِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " طَعَامُ الاثنَينِ كَافي الثَّلاثَةِ ، وَطَعَامُ الثَّلاثَةِ كَافي الأَربَعَة " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

إِنَّ صَنَادِيقَ القُمَامَةِ وَبَعضَ الأَمَاكِنِ في الصَّحرَاءِ ، لَتَشهَدُ أَلوَانًا مِنَ الزِّبَالاتِ وَالنِّفَايَاتِ النَّاتِجَةِ مِنَ الإِسرَافِ وَالتَّبذِيرِ وَالاستِهلاكِ الشَّرِهِ ، الَّذِي بَعَثَتهُ المُبَاهَاةُ وَالتَّقلِيدُ ، وَدَعَت إِلَيهِ المُفَاخَرَةُ وَالمُكَاثَرَةُ ، وَالَّذِي لَو جُمِعَ المَالُ المُنفَقُ فِيهِ ، ثم أُنفِقَ في وُجُوهِهِ المَشرُوعَةِ وَسُبُلِهِ المَندُوبِ إِلَيهَا ، لَزَالَت بِهِ كَثِيرٌ مِن مَآسي المُجتَمَعِ ، وَلَصَلَحَت أَحوَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَطَابَ عَيشُهُم وَاستَقَرَّت حَيَاتهُم ُ ، وَلارتَفَعَ عَنهُمُ البُؤسُ وَالفَقرُ وَالقِلَّةُ . أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَلْنَحذَرْ أَفعَالَ المُترَفِينَ ؛ فَإِنَّهَا مِن أَسبَابِ هَلاكِ البُلدَانِ وَتَدمِيرِهَا ، قال عزَّ شَأنُهُ : " وَلا تُطِيعُوا أَمرَ المُسرِفِينَ . الَّذِينَ يُفسِدُونَ في الأَرضِ وَلا يُصلِحُونَ " وَقَالَ تَعَالى : " وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا " وَقَالَ سُبحَانَهُ :  وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ "

 

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاذكُرُوهُ ذِكرًا كَثِيرًا وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الإِسرَافَ ظُلُمَاتٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ ، وَلَهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَأَشكَالٌ مُختَلِفَةٌ ، وَلَيسَ مَقصُورًا عَلَى المَأكُولِ وَالمَشرُوبِ فَحَسبُ ، وَإِنَّهُ وَإِن كَانَت الإِحصَائِيَّاتُ قَد دَلَّت عَلَى أَنَّ نِسبَةَ الهَدْرِ في الأَكلِ في مُجتَمَعِنَا قَد تَجَاوَزَت ثَلاثَةً وَثَلاثِينَ بِالمِئَةِ ، بِقِيمًةٍ تُقَدَّرُ سَنَوِيًّا بِنَحوِ أَربَعِينَ مِليَارَ رَيَالٍ ، فَثَمَّ مُسرِفُونَ في عِمَارَةِ المَسَاكِنِ وَفَرشِهَا وَأَثَاثِهَا ، وَمُسرِفُونَ في المَرَاكِبِ وَوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ ، وَمُسرِفُونَ في المَدحِ وَالذَّمِّ وَالعَطَاءِ وَالمَنعِ ، يَمدَحُونَ مَن لا يَستَحِقُّ المَدحَ وَيُعطُونَهُ وَيَرفَعُونَهُ ، وَيَذُمُّونَ مَن لَيسَ مِن أَهلِ الذَّمِّ وَيَمنَعُونَهُ وَلا يَدعَمُونَهُ ، وَثَمَّ مُسرِفُونَ في رُؤيَةِ أَنفُسِهِم وَنَفخِهَا وَالإِعجَابِ بِهَا ، وَالتَّكَبُّرِ عَلَى الآخَرِينَ وَتَحقِيرِ مَن سِوَاهُم ، وَثَمَّ مُسرِفُونَ في المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ ، لا يَتُوبُونَ وَلا هُم يَذَكَّرُونَ ، وَثَمَّ مُسرِفُونَ في النَّومِ وَالتَّكَاسُلِ ، يَنَامُونَ بِالأَيَّامِ عَنِ الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ وَيَتَأَخَّرُونَ عَنِ الجَمَاعَاتِ ، وَيَتَكَاسَلُونَ عَن كَسبِ أَرزَاقِهِم وَلا يَطلُبُونَ قُوتَ أَنفُسِهِم ، وَثَمَّ مُسرِفُونَ يَتَحَاكَمُونَ إِلى قَوَانِينِ الجَاهِلِيَّةِ ، فَإِذَا أَخطَأَ أَحَدٌ عَلَيهِم ، تَجَاوَزُوا في الانتِقَامِ مِنهُ بِالاعتِدَاءِ عَلَى إِخوَانِهِ أَو أَقَرِبَائِهِ ، مُتَجَاهِلِينَ قَولَ اللهِ تَعَالى : " وَمَن قُتِلَ مَظلُومًا فَقَد جَعَلنَا لِوَلِيِّهِ سُلطَانًا فَلا يُسرِفْ في القَتلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا " وَثَمَّ مُسرِفُونَ في مَحَبَّةِ زَوجَاتٍ وَتَدلِيلِ أَبنَائِهِنَّ ، مَعَ بُغضِ زَوجَاتٍ لَهُم أُخرَيَاتٍ وَالتَّغَافُلِ عَنهُنَّ وعن أَبنَائِهِم مِنهُنَّ ، لا يُنفِقُونَ عَلَيهِم وَلا يَرعَونَهُم حَقَّ الرِّعَايَةِ ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَلْنَسلُكْ سَبِيلَ الوَسَطِيَّةِ وَالاقتِصَادِ وَالاعتِدَالِ في أُمُورِنَا كُلِّهَا ، بِلا إِفرَاطٍ وَلا تَفرِيطٍ ، وَلا غُلُوٍّ وَلا مُجَافَاةٍ ، وَلا إِسرَافٍ وَلا تَقتِيرٍ ، وَالشُّكرَ الشُّكرَ لِيَرضَى اللهُ عَنَّا وَيَزِيدَنَا " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللهَ لَيَرضَى عَنِ العَبدِ أَن يَأكُلَ الأكلَةَ فَيَحمَدَهُ عَلَيهَا ، أَو يَشرَبَ الشّربَةَ فَيَحمَدَهُ عَلَيهَا " رَوَاهُ مُسلِمُ .

المرفقات

1695897084_ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.docx

1695897093_ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.pdf

المشاهدات 1957 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا