-خطبة موافقة للتعميم- الرزق والرزاق -سبحانه-

عبدالرحمن السحيم
1444/08/03 - 2023/02/23 18:26PM

الحمد لله حمد الشاكرين، ونشكره شكر الحامدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن نبينا محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، أشرف الذاكرين، وأصدق الشاكرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه  وأتباعه إلى يوم الدين،    أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واستقيموا على أمره، واجتنبوا نهيه؛ فإن الدنيا مهما طابت لأصحابها، وازدانت لطلابها، فهي إلى زوال، وهم عنها بالموت راحلون، ولأعمالهم ملاقون ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره ﴾

أَيْهَا الإِخْوَةُ: تَأَمُّلُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ يُورثُ فِي القَلْبِ الطْمَأنِينَةَ والأَمَانَ، وَيُنْزِلُ فِي القَلْبِ الرِضَا وَالِاسْتِقْرَارَ؛ فَتُثْمِرُ حَالاً عَلِيَّةً، وَأَقْوَالاً سَنِيَّةً، وَأَفْعَالاً رَضِيَّةً، وَغنائم دُنْيَويَّة، وَدَرَجَاتٍ أُخْرَويَّة.

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسمَاءِ اللهِ الحُسْنَى الَتِي تَبْعَثُ فِي القَلبِ الثقةَ "الَرَزَّاق": وَهُوَ اسْمٌ يَدُلُ عَلَى أَنَّهُ رَزَّاقٌ لِجَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ، فَمَا مِنْ مَوجُودٍ فِي العَالَمِ العُلويِ وَلَا السُفْلِي إِلا مُتَمَتِعٌ بِرِزْقِهِ، مَغْمُورٌ بِكَرَمِهِ، وَهُوَ الَذِي يَتَوَلَى تَنْفِيذَ الأَرْزَاقِ لَحظَةً بِلَحظَةٍ؛ فَهُوَ كَثِيرُ الإِنْفَاقِ والإنعام.

وَلَفْظُ الَرَزَّاقِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي قِسمَةِ الأَرزَاقِ؛ فَرِزْقُ الخَلَائِقِ منهِ وحده، وَلَيسَ لَهُمْ اعْتِمَادٌ فِي الرْزقِ إِلَا عَلَيهِ. وَقَدْ ضَمِنَ رِزْقَهُم وَسَيُؤدِيهِ كَمَا وَعَدَ؛ فقد قال سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) والرَزْقُ: هُوَ العَطَاءُ المُتَجَدِدُ الذِي يَأَخُذُهُ صَاحِبُهُ فِي كُلِ تَقْدِيرٍ يَومِيٍ أَوْ سَنَويٍ أَوْ عُمْرِيٍ.

وَرِزْقُ اللهِ -تَعَالَى- نَوعَان: الأَوّل: رِزْقُ القُلُوبِ بِالعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالإِيمَانِ الصَحِيحِ، وَالعَلْمِ بِالحَقَائِقِ النَافِعَةِ وَالعَقَائِدِ الصَائِبَةِ، ثُمَ التَخَلُقِ بِالأَخْلَاقِ الجميلة، والتنزهِ عن الأخلاق الرذيلة. وأكرم بهذا من رزق.

والنوعُ الثاني: إِيْصَالُ البَارِي جَمِيعَ الأَقْوَاتِ التِي تَتَغَذَّي بِها المَخْلُوقَاتِ بَرَّها وفَاجِرَها المُكَلفُونَ وَغَيرُهم.. فهُوَ الرَزَّاقُ الخَلَّاقُ وَهُوَ عَلَى كُلِ شَيءٍ قَدِير: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ورزقُهُ -سبحانَهُ- لا يخُصُ به مؤمنًا دونَ كافرٍ، ويسوقُهُ إلى الضعيفِ الذي لا حِيلَةَ لَهُ، كما يسوقُهُ إلى الجَلْدِ القوي، (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)

أيها الأحبة: رزقُ العبدِ مضمونٌ منه -تعالى-، ولم يكتفِ بالضمانِ بل أقسمَ –سبحانه- عليه فقال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ* فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) وقال سبحانه (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي: أنَّ الباري -تباركَ وتعالى-، قد تكفلَ بأرزاقِ الخلائقِ كُلِهم، قَويهم وعاجزِهم، صغيرهم وكبيرِهم، من يدخرُ رزقَهُ ومن لا يدخرُهُ؛ فيُسخرُ اللّهُ -تعالى- لهم الرزقَ، في كلِ وقتٍ بوقتِه. وقال تعالى (اللّهُ الذِي خَلقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ) ؛ فَكَمَا أَنَّ اللهَ هُوَ وَحْدَهُ الخَالِقُ المُحْي المُمِيتُ ، فَكَذَلِكَ هُوَ وَحْدَهُ الرَّزَّاقُ. وقَالَ الرَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا"(رواه الترمذي). وَرِزْقُ اللَّهِ لَا يَنْفَدُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِلَا ثِقَلٍ وَلَا كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ؛ فَهُوَ رَازِقٌ بِلَا مَؤُونَةٍ؛ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: "يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي؛ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

 ولا ينقطعُ عنْ مَخْلُوقٍ رزقه حتى تنقطعَ أنفاسُه، ولن يموت عبد حتى يحوز ما كتب له من رزق وفي الحديث: "لَو أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ، لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ"

واعلموا عباد الله بأن كَثْرَة الرِّزْقِ لَا تَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَهَذَا ظَنُّ الْكُفَّارِ وَالْجُهَّالِ: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)[سَبَإٍ: 35-37].

وَاللَّهُ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، أما الإيمان والجنة فلا يعطيها إلا من يحب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ"( رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

كَمَا أَنَّ قِلَّةَ الرِّزْقِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِهَانَةِ؛ (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا) أي ليس الأمر كذلك. وَإن اللَّهَ سبحانه يُنَزِّلُ الْأَرْزَاقَ بِقَدَرٍ؛ فَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِ الْعِبَادِ وَمَا يُصْلِحُهُمْ؛ (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)

عباد اللهَ: علّقوا قلوبكم في أرزاقكم بالله وحده ثم ابذلوا الأسباب الشرعية بجد واجتهاد، وَادْعُوه باسمه الرزاقِ وقد كان مِنْ دُعَاءِ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فالأرزاق كلها بيد الله، فهو المعطي المانع، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، الذي بيده أزمّة الأمور، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية.

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله حَقَّ التَّقوَى وراقبوه في السر والعلانية؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

أحسنوا ظنكم بالله واصدقوا الرجاء فيه، وإذا أَعْوَزَكُمْ الرَزقَ، فلا تطلبُوهُ بالطمع وكثرةِ الحرصِ، فلنْ يَزيدَ الحرصُ والشحُّ في رزقِ العبدِ فوقَ ما قَسَمَهُ اللهُ لَهُ، جاء في الحديث (لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا, فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ, وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ, فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ) فرزقك مكتوب قبل أن تولد، ولن تُدرك بقوتك وذكائك ما ليس لك، ولن يفوتك بضعفك ما كُتب لك، وإن الذي رزقك وأنت في بطن أمك لن يُضيّعك على ظهر أرضه، وأنت تعمل وتطلبه صادقًا بقلبك. ولا يحملّنك طلب الرزق على احتكار السلع، والإضرار بالناس؛ ففي الحديث (من احتكر فهو خاطئ)، وثق بأنّ الرفيق السمح الهيّن من أسعد الناس وأهنأهم، وفي الحديث (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) وليحرص المؤمن على الرزق الحلال فإنّ الله سأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وليعد للسؤال جوابًا، والأمر ليس بالهين، فأيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به، وما أبعد دعاء من غُذي بالحرام عن الاستجابة، كما صحت بذلك الأحاديث، فاحذر أيها المبارك في طلب رزقك من المحرمات بأنواعها كالتعامل بالربا بجميع صوره: إقراضًا أو اقتراضًا، عملًا أو مساهمة أو إيداعًا؛ ففي الحديث الصحيح (لعن رسول الله أكل الربا ومُوكله وكاتبه وشاهديه)، وقد توعد الله صاحبه بالمحق والهلاك (فأذنوا بحرب من الله ورسوله)، وليحذر المرء أيضًا من القمار أو الغش والخداع؛ ففي الحديث الصحيح (من غشنا فليس منا)، وليجتنب بيع الحرام كالسجائر وآلات المعازف أو تأجير المحلات لذلك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك, واجتنب ما كان مشتبها تستبرئ لدينك وعرضك، واحرص على اجتناب ما تمنعه الأنظمة كالتستر التجاري، وإخلاف العقود، وهذا طاعة لولي الأمر بالمعروف، ودرءًا للمفاسد المترتبة على ذلك.

وبعد يا كرام: اسأَلُوا اللهَ مِنْ وَاسِعِ فَضْلِهِ، وَلَا تقنطوا أو تَخْشَوا مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلَالاً، وَقُومُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْكُم مِنْ حَقِهِ بِعِبَادَتِهِ وَأَدَاَءِ شُكْرِهِ والإِحْسَان إلِى عِبَادِهِ مع التوكل عليه وبذل ما يجب؛ يَرْزُقُكُم اللهُ مِنْ حَيثُ لَمْ تَحْتَسِبُوا.

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً.  اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،

اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.

اللهم رزقنا من واسع فضلك رزقًا حلالًا طيبًا مباركًا فيه، وأنت خير الرازقين

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

عباد الله! اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

1677166052_-خطبة موافقة للتعميم- الرزق والرزاق.pdf

1677166066_-خطبة موافقة للتعميم- الرزق والرزاق.doc

المشاهدات 1038 | التعليقات 0