خطبة فوائد وعبر من قصة نبي الله يونس عليه السلام

عبدالرحمن السحيم
1445/12/21 - 2024/06/27 18:28PM

الحمد لله حمد الشاكرين، ونشكره شكر الحامدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو رضاه في الدارين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، أشرف الذاكرين، وأصدق الشاكرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه  وأتباعه إلى يوم الدين،

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، واستقيموا على أمره، واجتنبوا نهيه؛ فإن الدنيا مهما طابت لأصحابها، وازدانت لطلابها، وعظمت في أعين عُبَّادها؛ فهي إلى زوال، وهم عنها بالموت راحلون، ولأعمالهم ملاقون ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره ﴾

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: مَعَ الْقَصَصِ، تَهْفُو النُّفُوسُ، وَتُصْغِي الْآذَانُ، وَلِذَا تَبَوَّأَتِ الْقِصَصُ مِسَاحَةً وَاسِعَةً فِي آيَاتِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ؛ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآن}، {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. نَقِفُ -إِخْوَةَ الْإِيمَانِ- مَعَ قِصَّةٍ قَصِيرَةٍ فِي حَلَقَاتِهَا، مَلِيئَةٍ بِعِظَاتِهَا؛.نَقِفُ مَعَ خَبَرِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ، وَالرَّجُلِ الصَّالِحِ ذِي النُّونِ، صَاحِبِ الْحُوتِ، يُونُسَ ابْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- اِرْتَضَاهُ رَبُّهُ وَاجْتَبَاهُ، فَخَصَّهُ بِالنُّبُوَّةِ،والرِّسَالَةِ؛ {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أَرْسَلَهُ رَبُّهُ -تَعَالَى- إِلَى قَرْيَةِ نِينَوَى، وَهِيَ مَدِينَةٌ بِالْعِرَاقِ.كَانَ عَدَدُ أَهْلِها مِائَةَ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، فَقَامَ فِيهِمْ يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُبَلِّغًا رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَمُجَدِّدًا لِمَعَالِمِ التَّوْحِيدِ الَّتِي انْدَرَسَتْ، رَغَّبَهُمْ نَوَالَ رَبِّهِمْ إِنْ تَابُوا وَوَحَّدُوا، وَأَنْذَرَهُمْ عِقَابَهُ وَبَأْسَهُ إِنْ كَفَرُوا وَأَشْرَكُوا، ولَبِثَ فِيهِمْ نَاصِحًا مُصْلِحًا مَا شَاءَ اللهُ لَهُ أَنْ يَلْبَثَ.فَمَا كَانَ مَوْقِفُ قَوْمِهِ إِلَّا الْإِعْرَاضَ وَالْجَفَاءَ، وَلِشِدَّةِ يَقِينِهِ بِدَعْوَتِهِ، غَضِبَ عَلَى قَوْمِهِ وَغَاضَبَهُمْ، فَخَرَجَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَدْ بَلَغَ بِهِ الْحَنَقُ مِنْهُمْ مَبْلَغَهُ؛ {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} فَارَقَ يُونُسُ قَرْيَتَهُ نِينَوَى، قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ مِنْ رَبِّهِ.وَالْأَصْلُ: أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يَمْكُثُ فِي مَقَرِّ دَعْوَتِهِ، حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ بِالْهِجْرَةِ وَالْمُفَارَقَةِ، فَهَذَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَشَوَّفُ لِلْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُهُ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَقُولُ لَهُ: "انْتَظِرْ؛ فَإِنِّي أَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي"، ثُمَّ أَتَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ يُبَشِّرُهُ، وَيَقُولُ لَهُ: "إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي بِالْهِجْرَةِ".اسْتَعْجَلَ يُونُسُ ابْنُ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْخُرُوجَ مِنْ دِيَارِ قَوْمِهِ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ رَبَّهُ لَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْخُرُوجِ؛ {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}.مَضَى مُيَمِّمًا وَجْهَهُ شَطْرَ الْبَحْرِ، فوَجَدَ سَفِينَةً قَدْ ضَاقَتْ بِأَهْلِهَا، فَرَكِبَ مَعَ مَنْ رَكِبَ. سارتْ تِلْكَ السَّفِينَةُ حَتَّى إِذَا تَوَسَّطَتِ الْبَحْرَ، تَلَاطَمَتْ بِهَا الْأَمْوَاجُ، وَتَقَاذَفَتْهَا الرِّيَاحُ، فَاضْطَرَبَتِ وَمَاجَتْ، وشارف أَهْلُها عَلَى الهلاك. فِاجْتَمَعَوا وَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ قَرَّرُوا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّضْحِيَةِ بِبَعْضِ أَفْرَادِ السَّفِينَةِ، حَتَّى يَخِفَّ الْحِمْلُ عَلَيْهَا؛ لِيَنْجُوَ مَنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ ارتكابًا لأخف الضررين لدفع أعلاها، فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَهْوَنُ مِنْ هَلَاكِ الْجَمِيعِ.وَاخْتَارُوا طَرِيقَةً عَادِلَةً لِمَنْ سَيَكُونُ ضَحِيَّةً فِي الْبَحْرِ، فَوَضَعُوا قُرْعَةً بَيْنَهُمْ، وَالْكُلُّ يَرْجُو أَلَّا يَكُونَ هُوَ. اِقْتَرَعُوا، وَسَقَطَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، فَأُعِيدَتِ الْقُرْعَةُ ثَانِيَةً، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُعِيدَتْ ثَالِثَةً، فَكَانَ هُوَ صَاحِبَ الْقُرْعَةِ؛ قَالَ –تَعَالَى-: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أَيْ: مِنَ الْمَغْلُوبِينَ فِي الْقُرْعَةِ. عِنْدَهَا، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِلْقَاءِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ وَسْطَ لُجَّةِ الْبَحْرِ، وَتَقَدَّمَ يُونُسُ ابْنُ مَتَّى إِلَى الْبَحْرِ الْهَائِجِ، لِيَسْتَقْبِلَ بِرُوحِهِ احْتِمَالَاتِ الْهَلَاكِ الْمُنْتَظَرَةَ. إِنَّهُ مَصِيرٌ لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ، إِلَّا ممَنْ يَكْشِفُ السُّوءَ، وَيُفَرِّجُ الْكَرْبَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، سَقَطَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ، وَقَدْ تَعَالَتْ أَمْوَاجُهُ، وَأَظْلَمَ مَاؤُهُ؛ فَابْتَلَعَهُ الْبَحْرُ الْهَائِجُ الْمَائِجُ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ طَوِيلًا حَتَّى كَانَ الِابْتِلَاعُ الْآخَرُ مِنْ حُوتِ الْبَحْرِ؛ {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} أَيْ: أَتَى فِعْلًا يُلَامُ عَلَيْهِ، وَهُوَ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ.  اِلْتَقَمَ الْحُوتُ نَبِيَّ اللهِ يُونُسَ، وَمَرَّ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ بَيْنَ فَكَّيِ الْحُوتِ، ثُمَّ إِلَى جَوْفِهِ، فَكَانَتِ احْتِمَالَاتُ الْهَلَكَةِ مُضَاعَفَةً مُتَيَقَّنَةً؛ فَلَا نُورَ هُنَاكَ وَلَا هَوَاءَ، وَلَا طَعَامَ وَلَا مَاءَ، إِنَّهَا كُرُبَاتٌ فِي كُرُبَاتٍ، وَظُلُمَاتٌ فِي ظُلُمَاتٍ. هُنَا تَذَكَّرَ هَذَا النَّبِيُّ الصَّالِحُ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَسْمَعُ النِّدَاءَ،ويجيب الدعاء، فَهَتَفَ وَاسْتَغَاثَ بِكَلِمَاتٍ مِنْ قَلْبِهِ قَبْلَ لِسَانِهِ؛ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.إِنَّهَا كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالتَّعْظِيمِ وَالِاعْتِرَافِ؛ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، إِفْرَادٌ وَإِقْرَارٌ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الْمَلِكُ الْحَقُّ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ، فَأَعْظَمُ مَا يُنَادِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ، اعْتِقَادُهُ وَاعْتِرَافُهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ-سُبْحَانَهُ-. ثُمَّ نَزَّهَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ رَبَّهُ، وَعَظَّمَهُ فَقَالَ: (سُبْحَانَكَ)، ثُمَّ تَوَاضَعَ لِرَبِّهِ، وَاعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ وَتَقْصِيرِهِ: (إني كنت من الظالمين)، فَاجْتَمَعَتْ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُخْتَصَرَةِ أَسْبَابُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ، إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ"؛ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَبَعْدَ زَفَرَاتِ التَّعْظِيمِ، وَلَهَجَاتِ الِاعْتِرَافِ، وَالْجَأْرِ بِالدُّعَاءِ وَالشِّكَايَةِ، كَانَتْ مَعِيَّةُ اللهِ، وَرَحْمَته مَعَ عَبْدِهِ الْمَكْرُوبِ. فَهَذَا النِّدَاءُ فِي جَوْفِ الْبِحَارِ، سَمِعَهُ مَنْ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، وَهَذِهِ الْحَالُ الْعصيبةُ، رَآهَا عَالِمُ الْخَفِيَّاتِ، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.هُنَا، وَبِأَمْرٍ مِنَ اللهِ -جَلَّ جَلَالُهُ- الَّذِي يُدَبِّرُ الْكَوْنَ بَقوله (كن)، تَوَقَّفَتْ عَوَامِلُ الْهَلَاكِ لِنَبِيِّ اللهِ؛ فَشَاءَ سبحانه أَنْ يَعِيشَ يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، كَمَا يَعِيشُ الْجَنِينُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ. وَمَكَثَ أَمَدًا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُظْلِمِ يُسَبِّحُ وَيُنَاجِي وَيَدْعُو، فَأَدْرَكَتْهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَرَحْمَةٌ، فَلَفَظَهُ الْحُوتُ فِي مَكَانٍ قَفْرٍ خَالٍ مِنَ الْأَشْجَارِ؛ {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}.خَرَجَ يُونُسُ ابْنُ مَتَّى مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ يَلْهَجُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، قَدْ كَتَبَ اللهُ لَهُ حَيَاةً جَدِيدَةً، وَحَالُهُ غَيْرُ الْحَالِ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَدِ اعْتَلَّتْ صِحَّتُهُ، وَتَغَيَّرَ بَدَنُهُ، وَرَقَّ جِلْدُهُ؛ {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ}.قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "خَرَجَ كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ، لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ، ثُمَّ تَوَالَتْ نِعَمُ اللهِ وَلُطْفُهُ عَلَى عَبْدِهِ، فَأَنْبَتَ اللهُ عِنْدَهُ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، شَجَرَةَ الْقَرْعِ، فَكَانَ وَرَقُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ غِطَاءً نَاعِمًا يُظَلِّلُ جِسْمَهُ، وَيَقِيهِ حَرَّ الشَّمْسِ، وَجَفَافَ الْهَوَاءِ".حَتَّى إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ صِحَّتُهُ وعَافِيَتُهُ، رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ تَرَكَهُمْ مُغَاضِبًا لَهُمْ، وَعَادَ يُتَمِّمُ مُهِمَّتَهُ الْأُولَى، فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُمْ، فَآمَنُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، فَكَانَتْ عَوْدَتُهُ وَدَعْوَتُهُ َنجَاةً لَهُمْ، وَكَانَ أَهْلُ نِينَوَى هُمُ الْأُمَّةَ الْوَحِيدَةَ مِنْ أُمَمِ الْأَرْضِ الَّتِي آمَنَتْ بِنَبِيِّهَا دُونَ أَنْ يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْهَا. وَكَانَ إِيمَانُهُمْ ذَاكَ سَبَبًا فِي كَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ؛ {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية.

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله حَقَّ التَّقوَى وراقبوه في السر والعلانية؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: فِي نَبَأِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَخَبَرِهِ عِبَرٌ وَعِظَاتٌ، مِنْهَا: أَنَّ السِّرَّ فِي نَجَاته -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَكَشْفِ غُمَّتِهِ قَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الْقُرْآنِ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.وَالتَّسْبِيحُ هُنَا لَيْسَ حَالَ كَوْنِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فَقطْ؛ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ حَالِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الدَّائِمَةِ، فَحَيَاتُهُ كُلُّهَا كَانَتْ تَسْبِيحًا وَطَاعَةً وَعِبَادَةً، فَلَمَّا سَبَّحَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، كَانَ تَسْبِيحُهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ امْتِدَادًا لِتَسْبِيحِهِ فِي حَيَاتِهِ السَّابِقَةِ. وَمِنْ عِبَرِ الْقِصَّةِ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَة فِي أَيَّامِ الرَّخَاءِ تُرَافِقُ الْعَبْدَ فِي شِدَّتِهِ، وَتَكُونُ سَبَبًا بِعَوْنِ اللهِ فِي إِزَالَةِ كُرْبَتِهِ، وَرَفْعِ مِحْنَتِهِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِابْنِ عَبَّاسٍ: "تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. فَيُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَرَفَ رَبَّهُ فِي رَخَائِهِ، فَعَرَفَهُ رَبُّهُ فِي شِدَّتِهِ حِينَ دَعَاهُ. وَمِنْ دُرُوسِ الْقِصَّةِ: أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْرَجٌ مِنَ الْفِتَنِ، وَسَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ؛ فَقَدْ نَجَّى اللهُ عَبْدَهُ يُونُسَ مِنْ كُرُبَاتِهِ، ثُمَّ وَعَدَ المؤمنين بمثل ذلك الإنجاء فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}، وَحِينَ آمَنَ قَوْمُه، كَانَ ذَاكَ الْإِيمَانُ دَافِعًا عَنْهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ الْمُنْتَظَرِ؛ {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.وَمِنْ فَوَائِدِ الْقِصَّةِ: أَهَمِّيَّةُ عِبَادَةِ التَّسْبِيحِ، وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِدَفْعِ الْهَمِّ، وَاسْتِدْفَاعِ الْغَمِّ، هَذَا مَا نَطَقَ بِهِ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} وَفِي قِصَّته -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رِسَالَةٌ لِكُلِّ دَاعِيَةٍ وَمُرَبٍّ، وَمُصْلِحٍ وَأَبٍ، أَلَّا يَيْئَسَ وَلَا يَضِيقَ مِنْ دَعْوَتِهِ وَتَوْجِيهَاتِهِ؛ فَهَذَا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- غَاضَبَ قَوْمَهُ حِينَ جَفَوْا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَوَاصَلَ دعوته، فَكَانَ نَتِيجَتُهُ: آمَنَ قَوْمُهُ أَجْمَعُونَ. فَقَدْ لَا يَكُونُ لِلْكَلِمَةِ الْمُشْفِقَةِ أَثَرٌ فِي مَهْدِهَا، وَلَكِنْ مَعَ الصِّدْقِ وَالصَّبْرِ والتكرار، قد يَفْتَحُ اللهُ لِلْكَلِمَاتِ النَّاصِحَةِ مَغَالِيقَ الْقُلُوبِ. وَمن دُرُوسِ الْقِصَّةِ -أَيْضًا-: أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْبَلَاءِ مِمَّا يَزِيدُ الْعَبْدَ رِفْعَةً عِنْدَ رَبِّهِ، وَمِقْدَارًا بَيْنَ خَلْقِهِ، فَهَذَا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَفَعَ اللهُ ذِكْرَهُ بَعْدَ أَنِ ابْتَلَاهُ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ قَوْمُهُ وَآمَنُوا بِهِ، وَصَدَّقُوا دَعْوَتَهُ، وَسَارُوا عَلَى شَرِيعَتِهِ. تِلْكَ -عِبَادَ اللهِ- قِصَّةُ وَخَبُر النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، وَالرَّجُلِ الصَّالِحِ، يُونُسَ ابْنِ مَتَّى، وَشَيْءٌ مِنْ عِبَرِهَا وَإِشَارَاتِهَا، نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَسْلُكَ بِنَا سَبِيلَ أَنْبِيَائِهِ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، وَيَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ.

صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَكْرَمِ الْمُرْسَلِينَ، كَمَا أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ -تَعَالَى- فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،

اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.

عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

1719502098_يونس عليه السلام - مشكولة.doc

1719502105_يونس عليه السلام 2- مشكولة.pdf

المشاهدات 809 | التعليقات 0