خطبة عن الجنة ونعيمها
عبدالرحمن السحيم
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضل بحكمته وهدى، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى. أما بعد،
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
عباد الله: خلقَ اللهُ الجنةَ وجعلَها دارًا لأوليائِه، ومقرًّا لأصفيائه، وملأها من رحمته وكرامته ورِضوانِه، ورغَّبَ فيها، ودعا إليها، وسمَّاها دارَ السلام، دارٌ لا ينفَدُ نعيمُها ولا يَبِيد، دارٌ فيها من كل خيرٍ مَزيد، قد تشوَّقَت لطالِبِيها، وتزَيَّنَت لمُريدِيها، ونطقَت أدلَّةُ الكتاب والسُّنَّة بوصفِ ما فيها. فيا سعادةَ ساكنِيها، ويا فوزَ وارِثِيها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي لصالحِين ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمِعَت، ولا خطَر على قلبِ بشر"متفق عليه.
هي جنة طابت وطاب نعيمها .. فنعيمها باق وليس بفان
دارٌ أشرقَ بهاؤُها، وطابَ فِناؤُها، وعظُم بناؤُها، بناؤُها لبِنَةُ ذهبٍ ولبِنَةُ فِضَّة، ومِلاطُها المِسكُ الأذفَر، وحَصباؤُها اللُّؤلؤُ والجوهَر، وترابُها الزَّعفَران، من يدخلُها ينعَمُ ولا يبأَس، ويخلُدُ ولا يموت، لا تبلَى ثِيابُه، ولا يفنَى شبابُه.
للجنةِ ثمانيةُ أبواب، وجاء في الصحيح: أنَّ ما بيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِن مَصَارِيعِ الجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهو كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ.
وأولُ من يقرعُ بابَ الجنة هو نبيُّنا وسيِّدُنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، فيقول له الخازِنُ: من أنت؟! فيقول: "محمد". فيقول: أُمِرتُ ألا أفتحَ لأحدٍ قبلَكَ. صلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وحشرنا الله وإياكم ووالدينا في زمرته.
وأولُ زُمرةٍ يدخُلون الجنةَ على صُورة القَمر ليلةَ البدر، والذين يلُونَهم على أشدِّ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء إضاءَةً، لا يبُولون ولا يتغوَّطُون ولا يمتخِطون ولا يتفِلُون، أمشاطُهم الذهب، ورشحهُم المِسك، ومجامِرُهم الأُلُوَّة، لا اختلافَ بينهم ولا تباغُض، على قلبِ رجلٍ واحدٍ، على صورةِ أبِيهم آدم ستون ذِراعًا في السماء في عرض سبعة أذرُع، يُسبِّحون اللهَ بُكرةً وعشِيًّا.
يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ جُردًا مُردًا، بيضًا جِعادًا، مُكحَّلين أبناءَ ثلاثٍ وثلاثين، قد أشرقَ على وجوهِهم السَّناءُ والضياءُ، والجمالُ والبَهاءُ، تعرِفُ في وجوهِهم نضرةَ النَّعيم، يُنادَون: إن لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقَموا أبدًا، وإن لكم أن تشِبُّوا فلا تهرَموا أبدًا، وإن لكم أن تنعَموا فلا تبأسُوا أبدًا، ولهم فيها من كل الثَّمرات، وما تشتهي الأنفس. ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطَّلَع فبدَا سِوارُه لطمَسَ ضوءَ الشمسِ كما تطمِسُ الشمسُ ضوءَ النجوم. عباد الله:
وإذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفِردوسَ؛ فإنه وسطُ الجنة، وأعلى الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تُفجَّرُ أنهارُ الجنة، وأعظمُ الأنهار وأحلاها وأحسنُها: نهرُ الكوثر، جعلَه الله مكرمةً لنبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، حافَّتاه قِبابُ اللُّؤلؤ المُجوَّف، وتُربتُه مِسكةٌ ذفِرَة، وحَصباؤُه اللُّؤلؤ، ماؤُه أبيضُ من اللبن، وأحلى من العسل، آنيتُه كعَدَد النُّجوم، ترِدُه طيرٌ أعناقُها كأعناقِ الجُزُر-أي: الجِمال.
وحوضُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في أرض الموقف، عرضُه مثلُ طولِه، ما بين ناحِيَتيه مسيرةُ شهرٍ، أو كما بين صنعاء والمدينة، يشخُبُ فيه مِيزابان من الجنة، يرِدُه أهلُ الإيمان، من شرِبَ منه لم يظمَأْ بعدَه أبدًا، وليُذادَنَّ عنه أُناسٌ غيَّرُوا وبدَّلوا وأحدَثُوا. فالثبات الثبات يا عباد الله.
وأدنَى أهل الجنة منزلةً رجلٌ يجِيءُ بعدما أُدخِل أهلُ الجنةِ الجنة، فيُقال له: ادخُل الجنة. فيقولُ: أيْ ربِّ: كيف وقد نزل الناسُ منازِلَهم، وأخَذوا أخذَاتهم؟! فيُقال له: أترَى أن يكون لك مثلُ مُلك ملِكٍ من ملوك الدنيا؟! فيقول: رضِيتُ ربِّ. فيقول: لك ذلك، ومثلُه، ومثلُه، ومثلُه، ومثلُه، فيقول في الخامِسَة: رضِيتُ ربِّ. فيقول: هذا لكَ وعشرةُ أمثالِه، ولك ما اشتهَت نفسُك ولذَّت عينُك. فيقول: رضِيتُ ربِّ.
وأما أعلاهُم منزلةً فيقول الله فيهم: أولئك الذين أردتُّ، غرستُ كرامتَهم بيدي، وختَمتُ عليها، فلم ترَ عينٌ، ولم تسمَع أُذنٌ، ولم يخطُر على قلب بشرٍ. فحقيقة نعيم الجنة فوق التوقعات والتصورات، وأفضل مما تعتقد.
وإن في الجنة لشجرةٌ يسيرُ الراكبُ في ظلِّها مائةَ سنةٍ ما يقطعُها، وإن للمؤمن في الجنة لخَيمة من لُؤلؤةٍ واحدةٍ مُجوَّفة، طولُها في السماء ستُّون ميلاً، للمؤمن فيها أهلُون، يطُوفُ عليهم المُؤمنُ فلا يرَى بعضُهم بعضًا.
ولو أن امرأةً من أهل الجنةِ اطَّلَعت على أهل الأرض لأضاءَت ما بينهما، ولملأَتْه رِيحًا، ولنَصِيفُها على رأسِها -يعني: خِمارَها- خيرٌ من الدنيا وما فيها، وما في الجنة أعزب.
وإن الله -عزّ وجل- يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة: فيقولون: لبَّيك ربَّنا وسعدَيك، والخيرُ في يدَيك. فيقول: هل رضِيتُم؟! فيقولون: وما لنا لا نرضَى يا ربَّنا، وقد أعطَيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقِك. فيقول: ألا أُعطِيكم أفضلَ من ذلك؟! فيقولون: وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟! فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضوانِي فلا أسخَطُ عليكم بعدَه أبدًا.
فما أعظمَ هذا النعيم! وما أجلَّ هذا التكريم! وإن العطاءَ الأعظم، والنعيمَ الأكبر الذي يتضاءَلُ أمامَه كلُّ نعيمٍ هو النَّظرُ إلى وجهِ الله الكريم؛ فعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظرَ إلى القمر ليلةَ البدر، وقال: "إنكم سترَون ربَّكم عِيانًا كما ترَون هذا القمرَ، لا تُضامُون في رُؤيتِه". متفق عليه. (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وقد رُوي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم.
يُنادِي مُنادٍ: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعِدًا يُريد أن يُنجِزَكمُوه. فيقولون:ما هو؟! ألم يُثقِّل موازِينَنا، ويُبيِّض وجوهَنا،ويُدخِلنا الجنة، ويُزحزِحنا عن النار؟! فيكشِفُ الحِجاب، فينظرُون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه. الله أكبر، أنعمَ عليهم وأفاد، وأعطاهم مُناهم وزاد.
جعلَني الله وإياكم من أهل السعادة، ورزَقَنا وأحبابَنا الحُسنى وزيادة.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية: الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبُود بحقٍّ سِواه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه ومُصطفاه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا دائِمَين مُمتدَّين إلى يوم الدين. أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله حَقَّ التَّقوَى وراقبوه في السر والعلانية، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
عباد الله: تلك بعضُ أوصافِ الجنة ونعيمها؛ فكيف يُفرِّطُ عاقل في هذا النعيمِ المقيم لأجل شهوة محرمة ودُنيا دنِيَّة قد أزِفَ عنها الرحيُّل ؟!
فالحَذَر الحَذَر -يا عباد الله-، فالموتُ معقودٌ بنواصِيكم، والدنيا تُطوَى من ورائِكم، ورُبَّ جِراحةٍ قتلَت، ومعصية أوبقت، وعثرةٍ أهلَكَت، ومن خافَ أدلجَ، ومن أدلجَ بلغَ المنزِلَ، ألا إن سِلعةَ الله غاليةٌ، ألا إن سِلعةَ الله الجنة.
يا سلعة الله لست رخيصة *** بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها *** في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها *** إلا أولو التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب؟ *** فالمهر قبل الموت ذو إمكان
فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد *** راحاتِه يوم المعاد الثاني
أسرع وحث السير جهدك إنما ... مسراك هذا ساعة لزمان
عبدالله:الجنةُ تحتاج منك إلى صدقِ إيمان، وتوبةٍ وسلامةِ جَنان، وحسنِ أقوال وأعمال، فذلك سبب دخول الجنة والعلو في درجاتها بعد فضل الله ورحمته؛ قال الله: (وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) رزقنا الله وإياكم ووالدينا سماعَ هذا النداء، والفوزَ بالفردوس الأعلى من الجنة.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم محمد فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين، و الطُف بعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،
اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..
سُبْحَانَ رَبِّنا رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
المرفقات
1676604750_الجنة ونعيمها1.doc
1676604751_الجنة ونعيمها1.pdf