خطبة: داء البخل

عبد الرحيم المثيلي
1442/07/27 - 2021/03/11 17:03PM

الخطبة الأولى

الحمد لله خلق الخلائق وقدَّر لها أقواتَها وكفاها، سبحانه وبحمده، أجزل عطاياه لعباده فنِعَمُه لا تتناهى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ مَنْ عرَف معناها، وعمل بمقتضاها، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أقام أركان الملة، وأعلى ذراها، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أزكى الأمة، وأبرها وأتقاها، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فاتقوا الله..

عباد الله: حديثنا اليوم عن صفة ذميمة, وخلة قبيحة كان النبي r يستعيذ منها ويأمر أصحابه أن يستعيذوا منها .. إذا وجدت في إنسان أخفت جميع محاسنه، وإذا غابت عنه غابت عن الناس مساوئه.. نعم: إنها صفة البخل وأعوذ بالله من البخل.

قال الماوردي رحمه الله: " قد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة – وإن كان البخلُ ذريعةً إلى كل مذمة – أربعةُ أخلاق ناهيك بها ذمًّا وهي: الحرص والشره، وسوء الظن ومنع الحقوق، وإذا آل البخيلُ إلى ما وصفنا من الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير موجود, ولا صلاح مأمول" اهـ.

وحسب البخل أن الله ذمه وتوعد أهله بالعقوبات العاجلة والآجلة؛ قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[آل عمران:180], وقَالَ r: « ثَلَاثَةٌ يُبْغِضُهُمْ اللهُ: الْفَخُورُ الْمُخْتَالُ, وَأَنْتُمْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِ اللهِ {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ},  وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ, وَالتَّاجِرُ الْحَلَّافُ » أخرجه الإمام أحمد.

عباد الله: إن البخيل لا يبخل إلا على نفسه، فهو حارم لنفسه من الخيرات والمسرات، طاعة لهواه وما تمليه عليه نفسه من سوء الظن بالله. {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ }[محمد: 38].

ولقد كان النبي r يتعوذ من البخل وهو أكرم الخلق: عن أنس t قال: كنت أسمعه كثيراً يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, والعجز والكسل, والبخل والجبن وضلع الدين, وغلبة الرجال» متفق عليه, وعن عمر t قال r: «إنهم خيروني بين أن يسألوني بالفحش, أو يبخلوني فلست بباخل» أخرجه مسلم. ‌

وآمرةً بالبخلِ قلتُ لها اقْصِري *** فليسَ إِلى ما تأمرينَ سبيلُ

أَرى الناسَ خلانَ الجوادِ ولا أرى *** بخيلاً له في العالمينَ خليلُ

فإِني رأيتُ البخلَ يزري بأهِله *** فأكرمْتُ نفسي أن يقالَ بخيلُ

أيها المسلمون: البخلُ داءٌ عضال، بل هو شرُّ الأدواء، خاصةً إذا تمكن من قلب صاحبه, والبخيلُ ليس بجديرٍ أن يكون سيداً في قومه. عن جابر t قال: قال r: مَن سيدكم يا بني سلمة؟ - قومٌ من الأنصار - قلنا: جدُّ بن قيس على أنَّا نبخله!! – أي نراه بخيلاً – قال r: «وأي داءٍ أدوى من البخل»؟! أي: وأي عيبٍ أقبح من البخل؟! بل سيدكم عمرو بن الجموح, وكان t جواداً ممدحاً.

قال ابن القيم رحمه الله: " والسخي قريب من الله تعالى ومن خلقه ومن أهله, وقريب من الجنة, وبعيد من النار, والبخيل بعيد من خلقه, بعيد من الجنة, قريب من النار فجود الرجل يحببه إلى أضداده, وبخله يبغضه إلى أولاده".

ويُظهر عيبَ المرء في الناس بخلُه *** ويستره عنهم جميعا سخاؤه

تغطَّ بأثواب السخاء فإنني *** أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه

أيها المؤمنون: إن البخيل خازن لماله, وحارس عليه حتى يتقاضاه منه الورثة رغمًا عن أنفه. قال ابن مفلح رحمه الله: "عجبًا للبخيل المتعجل للفقر الذي منه هرب، والمؤخر للسعة التي إياها طلب، ولعله يموت بين هربه وطلبه، فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء, وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء، مع أنك لم تر بخيلًا إلا غيره أسعد بمالِهِ منه لأنه في الدنيا مهتم بجمعه، وفي الآخرة آثم بمنعه، وغيره آمن في الدنيا من همه، وناجٍ في الآخرة من إثمه".

فلنعلم – عباد الله - أنه ليس لنا من أموالنا إلا ما أنفقنا في هذه الدنيا، وما سواه فللورثة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة t قال r: «يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاثٌ: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهبٌ, وتاركه للناس». ‌

إذا كُنْتَ جَمَّاعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا .. فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ

تُؤَدِّيهِ مَذمُومًا إِلَى غَيْرِ حَامِدٍ .. فَيَأْكُلَهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ

إن من تدبر هذا عمل لآخرته, وقدم لنفسه قبل فوات الأوان، فما أسرع نسيان الأحبة لك بعد موتك فإن باكيك سرعان ما يسلو، وكأنك لم تُخلق, فتصدق قبل أن تموت, وكن جواداً بمالك لضيفك وأقربائك.. قبل أن يحال بينك وبين ذلك.

فلا الجودُ يُفني المالَ قبل فنائهِ *** ولا البخلُ في مالِ الشحيحِ يزيدُ

عباد الله : كم جمع الإنسان من الأموال، وهو يؤمل أن يعمل بها ويبني بها ويفاخر بها، واخترمته المنية قبل ذلك كله، دخل الحسن البصري على عبد الله بن الأهتم يعوده فقال: يا أبا معمر كيف تجدك قال: أجدني والله وجعًا، ولا أظنني إلا لُمّ بي، ولكن ما تقولون في مائة ألف في هذا الصندوق لم تؤد منها زكاة, ولم يوصل منها رحم؟ قال الحسن: ثكلتك أمك فلمن كنت تجمعها؟ قال كنت والله أجمعها لروعة الزمان, وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة، فقال الحسن: انظروا هذا البائس أنى أتاه الشيطان، فحذره روعة زمانه, وجفوة سلطانه عما استودعه الله إياه, وعمره فيه، إن يوم القيامة ذو حسرات، وإن أعظم الحسرات غداً أن يرى أحدكم ماله في ميزان غيره، أو تدرون كيف ذاكم؟ رجل آتاه الله مالاً وأمره بإنفاقه في صنوف حقوق الله فبخل به فورثه هذا الوارث، فهو يراه في ميزان غيره، فيا لها من عثرةٍ لا تقال, وتوبةٍ لا تنال.

إِذَا جَادَتِ الدُّنيَا عَلَيكَ فَجُدْ بِهَا .. عَلَى النَّاسِ طُرًّا إِنَّهَا تَتَقَلَّبُ

فَلَا الجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ .. وَلَا البُخلُ يُبقِيهَا إِذَا هِيَ تَذهَبُ

أقول قولي هذا وأستغفر الله..

الخطبة الثانية

الحمدُ لله ذي الجُود والكرم، مُسبِغ النعم، وصارِف النِّقَم، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجُو النجاةَ بها يوم تزلُّ القدم، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أكرم خلق الله وأجودهم وأسخاهم، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه والتابعين وسلَّم.

أيها المؤمنون: فرق بين السخاء والتبذير، فإن حد السخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل ذلك إلى مستحقه بقدر الطاقة، والتبذير: إنفاق المال في غير حقه, والسخاء من فعل العظماء, والتبذير من فعل السفهاء, وليس الكريم السخي من يدعو لوليمته الأغنياء, ويمنع منها الفقراء. عن أبي هريرة t قال: «شَرُّ الطعامِ طعامُ الوليمة، يُدعى له الأغنياءُ، ويُترك المساكين » رواه البخاري ومسلم.

قال ابن القيم رحمه الله: "وللسخاء حد فمن وقف على حده كان كريمًا، وكان للحمد مستوجبًا، ومن قصر عنه كان بخيلاً, وكان للذم مستوجبًا".

وما نراه اليوم من ولائم الفخر والخيلاء مما يصنعه بعض الأغنياء ومقلدو الأغنياء بمناسبة وبغير مناسبة .. تالله إنه ليس له علاقةٌ بالكرم, وإنما هو تبذيرٌ وإسراف, ليس فيه بين العقلاء اختلاف.. فمتى يرعوي هؤلاء, وينأون عن صنيع السفهاء؟!

قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31], وقال r: «كلوا، وتصدّقوا، والبَسُوا، في غير إسراف ولا مَخيلة» رواه البخاري.

ألا فاتقوا الله – عباد الله – وكونوا كمن أثنى عليهم ربهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [الفرقان: 67].

المرفقات

1615482197_داء البخل.pdf

1615482210_داء البخل.doc

المشاهدات 1210 | التعليقات 0