خطبة : حفظ النفس المعصومة

عبدالله البصري
1444/02/18 - 2022/09/14 13:32PM

 

حفظ النفس المعصومة     20/ 2/ 1444

 

الخطبة الأولى : 
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّها النَّاسُ وَنَفسي بِتَقوى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "

أَيُّها المُسلِمونَ ، مِمَّا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ وَاهتَمَّ بِهِ بما لم يَهتَمَّ بِهِ قَبلَهُ وَلا بَعدَهُ دِينٌ سَمَاوِيٌّ وَلا قَانُونٌ وَضعِيٌّ ، حِفظُ النَّفسِ وَرِعَايَتُهَا وَالعِنَايَةُ بها ، وَوِقَايَتُهَا مِن كُلِّ أَذًى وَدَفعُ السُّوءِ عَنهَا والضَّرَرِ ، بَلَ إِنَّ البَشَرَ عَلَى مَرِّ التَّأرِيخِ وَامتِدَادِ العُصُورِ ، لم يَشهَدُوا تَشرِيعًا وَضَعَ مِنَ الأَحكَامِ وَشَرَعَ مِنَ الوَسَائِلِ ، مَا يَحفَظُ النَّفسَ الإِنسَانِيَّةَ المَعصُومَةَ كَمَا فَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ الإِسلامِيَّةُ . وَمَعَ مَا تَدَّعِيهِ المَدَنِيَّةُ المُعَاصِرَةُ مِنَ الرُّقِيِّ وَالتَّقَدُّمِ في مَجَالاتِ الحَيَاةِ ، وَمَعَ تَظَاهُرِهَا بِالعِنَايَةِ بَالبَشَرِ وَالاهتِمَامِ بِهِم بِمَا يُسَمَّى حُقُوقَ الإِنسَانِ ، وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسَنِّ القَوَانِينِ الَّتي تَضمَنُ حِفظَ حَيَاةِ الإِنسَانِ ، إِلاَّ أَنَّهَا في الحَقِيقَةِ لا يُمكِنُ أَن تَصِلَ مِن قَرِيبٍ أَو بَعِيدٍ إِلى عُشرِ مِعشَارِ مَا شَرَعَهُ الإِسلامُ في هَذَا المَجَالِ مِن وَسَائِلَ . أَجَل أَيُّها المُسلِمُونَ ، لَقَد عَدَّتِ الشَّرِيعَةُ الإِسلامِيَّةُ حِفظَ النَّفسِ المَعصُومَةِ مِن أَهَمِّ مَقَاصِدِهَا ، وَجَعَلَتهَا إِحدَى الضَّرُورِيَّاتِ الخَمسِ الَّتي لا بُدَّ مِنهَا لِقِيَامِ مَصَالِحِ النَّاسِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنيَوِيَّةِ .

وَالفَرقُ بَينَ التَّشرِيعِ الإِسلامِيِّ الحَنِيفِ وَالقَوَانِينِ الوَضعِيَّةِ ، أَنَّ قَوَانِينَ مَا يُسَمَّى بِحُقُوقِ الإِنسَانِ ، لم تَهتَمَّ بِالوَسَائِلِ الَّتي تَضمَنُ حِفظَ النُّفُوسِ عَلَى الحَقِيقَةِ ، فِيمَا تَمَيَّزَتِ الشَّرِيعَةُ الإِسلامِيَّةُ الغَرَّاءُ بِوُجُودِ كَثِيرٍ مِنَ التَّشرِيعَاتِ وَالوَسَائِلِ الَّتي تَحفَظُ النَّفسَ الإِنسَانِيَّةَ مِن أَيِّ ضَرَرٍ أَو أَذًى ، فَضلاً عَن حِفظِهَا مِنَ الهَلاكِ وَالإِزهَاقِ . وَإِذَا كَانَتِ القَوَانِينُ الوَضعِيَّةُ تَهتَمُّ بِالجَوَانِبِ المَادِّيَّةِ البَحتَةِ ، وَتَخُصُّ أَفرَادًا دُونَ أَفرَادٍ أَو مُجتَمَعَاتٍ دُونَ أُخرَى ، فَإِنَّ التَّشرِيعَاتِ وَالوَسَائِلَ الَّتي حَفِظَ الإِسلامُ مِن خِلالِهَا النَّفسَ الإِنسَانِيَّةَ مِنَ الأَذَى وَالهَلاكِ وَالإِتلافِ ، اتَّصَفَت بِالشُّمُولِ والسَّعَةِ ، وَاتَّسَمَت بِالرِّفقِ وَالرَّحمَةِ ، فَمِنهَا مَا هُوَ وِقَائِيٌّ ، وَمِنهَا مَا هُوَ عِلاجِيٌّ ، ومِنهَا مَا هُوَ سَدٌّ لِلذَّرَائِعِ وَالطُّرُقِ الَّتي قَد يَصِلُ مِن خِلالِهَا الأَذَى لِلنَّفسِ المَعصُومَةِ . وَمِن أَهَمِّ هَذِهِ الوَسَائِلِ وَالتَّدَابِيرِ : تَحرِيمُ الجِنَايَةِ عَلَى النَّفسِ المَعصُومَةِ ، حَيثُ وَرَدَ الوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِكُلِّ مَن يَعتَدِي عَلَى النَّفسِ بِالقَتلِ ، بما يَزجُرُ كُلَّ مَن يُحَدِّثُ نَفسَهُ بِارتِكَابِ هَذِهِ الجَرِيمَةِ البَشِعَةِ ، قَالَ تَعَالى : " وَمَن يَقتُلْ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا " وَكَفَى بِهَذَا تَهدِيدًا شَدِيدًا وَوَعِيدًا أَكِيدًا ، كَيفَ وَقَد قُرِنَ القَتلُ بِالشِّركِ بِاللهِ في غَيرِ مَا آيَةٍ وَحَدِيثٍ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " وَالَّذِينَ لا يَدعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ " وفي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " اِجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : " الشِّركُ بِاللَّهِ ، وَالسِّحرُ ، وَقَتلُ النَّفسِ..." الحَدِيثَ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " لَو أَنَّ أَهلَ السَّمَاءِ وَأَهلَ الأَرضِ اشتَرَكُوا في دَمِ مُؤمِنٍ لأَكَبَّهُمُ اللهُ في النَّارِ " رَوَاهُ التَّرمِذِيُّ وَقَالَ الأَلبَانيُّ : صَحِيحٌ لِغَيرِهِ . وعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " لَن يَزَالَ المُؤمِنُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِيُ اللهُ عَنهُمَا : إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأمُورِ الَّتي لا مَخرَجَ لِمَن أَوقَعَ نَفسَهُ فِيهَا سَفكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيرِ حِلِّهِ . وَرَوَى البُخَارِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَبغَضُ النَّاسِ إِلى اللهِ ثَلاثَةٌ : مُلحِدٌ في الحَرَمِ ، وَمُبتَغٍ في الإِسلامِ سُنَّةً جَاهِلِيَّةً ، وَمُطَّلِبٌ دَمَ امرِئٍ بِغَيرِ حَقٍّ لِيُهْرِيقَ دَمَهُ " قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تِيمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ : أَخبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبغَضَ النَّاسِ إِلى اللهِ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ ، وَذَلِكَ لأَنَّ الفَسَادَ إِمَّا في الدِّينِ وَإِمَّا في الدُّنيَا ، فَأَعظَمُ فَسَادِ الدُّنيَا قَتلُ النُّفُوسِ بِغَيرِ الحَقِّ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكبَرَ الكَبَائِرِ بَعدَ أَعظَمِ فَسَادِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ الكُفرُ . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ لِحِفظِ النَّفسِ :  تَحرِيمُ الانتِحَارِ ، وَالوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَوَاهِبُ الحَيَاةِ هُوَ اللهُ سُبحَانَهُ ، وَهُوَ وَحدَهُ الَّذِي يَملِكُ نَفسَ الإِنسَانِ ، وَأَمَّا الإِنسَانُ فَلا يَملِكُ التَّصَرُّفَ حَتى في حَيَاتِهِ بِالإِزهَاقِ وَالإِتلافِ ، قَالَ تَعَالى : " وَلا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُم رَحِيمًا " وَقَالَ تَعَالى : " وَلا تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلى التَّهلُكَةِ وَأَحسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفسَهُ فَهُوَ في نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَن تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفسَهُ فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَن قَتَلَ نَفسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا في بَطنِهِ في نَارِ جهنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدُا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ لِحِفظِ النَّفسِ : تَحرِيمُ حَملِ المُسلِمِ السِّلاحَ عَلَى أَخِيهِ ، وَالنَّهيُ عَنِ الإِشارَةِ بِالسِّلاحِ عَلَيهِ وَلَو مَزحًا ؛ وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ المُفضِيَةِ إِلى القَتلِ أَوِ الجَرحِ أَوِ التَّخوِيفِ ، وَدَفعًا لِلفِتنَةِ المُتَوَقَّعَةِ مِن حَملِ المُسلِمِ السِّلاحَ عَلَى أَخِيهِ أَوِ الإِشارَةِ بِهِ في وَجهِهِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن حَمَلَ عَلَينَا السِّلاحَ فَلَيسَ مِنَّا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن أَشَارَ إِلى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ المَلائِكَةَ تَلعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ وَإِن كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .

وَمَعَ هَذِهِ السُّبُلِ الوِقَائِيَّةِ لِحِفظِ النَّفسِ الإِنسَانِيَّةِ مِنَ الإِتلافِ وَالهَلاكِ ، وَمَعَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَن يَقتُلُ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا ، إِلاَّ أَنَّهُ قَد يَتَجَرَّأُ بَعضُ مَن لا دِينَ يَردَعُهُ عَلَى انتِهَاكِ حُرمَةِ النَّفسِ المَعصُومَةِ ، وَقَد يَتَجَاوَزُ آخَرُ في سَاعَةِ غَضَبٍ أَو غَفلَةٍ أَو نَشوَةٍ ، فَيَرتَكِبُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَجَعَلَهُ مِن أَكبَرِ الكَبَائِرِ ، وَحِينَهَا كَانَ لا بُدَّ مِن وَسِيلَةٍ عِلاجِيَّةٍ لِمِثلِ هَذِهِ الحَالاتِ المَرَضِيَّةِ ، وَهَذَا مَا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ في عُقُوبَةِ القِصَاصِ ، قَالَ تَعَالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَاصُ في القَتلَى الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبدُ بِالعَبدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيهِ بِإِحسَانٍ ذَلِكَ تَخفِيفٌ مِن رَبِّكُم وَرَحمَةٌ فَمَنِ اعتَدَى بَعدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَكُم في القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولي الأَلبَابِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " وعن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأسَ جَارِيَةٍ بين حَجَرَينِ فَقِيلَ لها : مَن فَعَلَ بِكِ هذا ؟ أَفُلاَنٌ ؟ حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ , فَأَومَأَت بِرَأسِهَا , فَجِيءَ بِاليَهُودِيِّ فَاعتَرَفَ , فَأَمَرَ بِهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأسُهُ بِالحِجَارَةِ . رَوَاهُ البُخُارِيُّ وَمُسلِمٌ ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيرِ النَّظَرَينِ ، إِمَّا أَن يُفدَى وَإِمَّا أَن يُقتَلَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .

أيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الوَسَائِلِ وَالتَّدَابِيرِ لِحِفظِ النَّفسِ الإِنسَانِيَّةِ المَعصُومَةِ مِنَ الأَذَى وَالهَلاكِ ، إِنَّهَا خَيرُ رَدٍّ عَلَى الكُفَّارِ وَالمُلحِدِينَ وَالمُنَافِقِينَ ، الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ التَّروِيجَ مُنذُ زَمَنٍ بِأَنَّ الإِسلامَ دِينُ عُنفٍ وَإِرهَابٍ وَاستِهتَارٍ بِالدِّمَاءِ ، في حِينِ أَنَّ الحَقِيقَةَ الَّتي يَعلَمُهَا القَاصِي وَالدَّاني أَنَّ الإِسلامَ هُوَ خَيرُ دِينٍ يَحفَظُ النَّفسَ ، وَأَنَّ الغَربَ كَمَا شَاهَدَ النَّاسُ وَمَا زَالُوا يُشَاهِدُونَ ، هُوَ أَكثَرُ مَن يَنتَهِكُ الحُرُمَاتِ وَالدِّمَاءَ ، وَمَا جَرَى وَمَا زَالَ يَجرِي إِلى اليَومَ وَخَاصَّةً في بِلادِ المُسلِمِينَ خَيرُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَاحرِصُوا عَلَى مَا يَحفَظُ نُفُوسَكُم وَنُفُوسَ الآخَرِينَ " وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "

 

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلٍ لَهُ مَخرَجًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لم يَتَوَقَّفْ حِرصُ الإِسلامِ عَلَى حِفظِ النَّفسِ المَعصُومَةِ عَلَى مَا سَبَقَ مِن وَسَائِلَ وِقَائِيَّةٍ وَعِلاجِيَّةٍ فَحَسبُ ، بَل تَعَدَّاهَا إِلى غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ رُخصَةً في بَعضِ الحَالاتِ الاستِثنَائِيَّةِ ، فَقَد أَبَاحَ الإِسلامُ النُّطقَ بِكَلِمَةِ الكُفرِ عِندَ الإِكرَاهِ بِالقَتلِ ، مَعَ اشتِرَاطِ أَن يَبقَى القَلبُ مُطمَئِنًّا بِالإِيمَانِ ، قَالَ تَعَالى : " مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ " وَلِحِفظِ النَّفسِ وَصِيَانَتِهَا مِنَ الإِتلافِ ، مَنَحَتِ الشَّرِيعَةُ الإِسلامِيَّةُ المُرتَدَّ فُرصَةً لِلحَيَاةِ وَالإِبقَاءِ عَلَى نَفسِهِ ، بِإِعطَائِهِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لِلتَّوبَةِ قَبلَ قَتلِهِ . وَلِحِفظِ النَّفسِ وَصِيَانَتِهَا مِنَ الإِتلافِ أُوجِبَ عَلَى الإِنسَانِ أَن يَتَنَاوَلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا تَقُومُ بِهِ حَيَاتُهُ وَلا يَهلَكُ ، بَل حُرِّمَ عَلَيهِ أَن يَمتَنِعَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِذَا خَشِيَ عَلَى نَفسِهِ الهَلاكَ ، وَأُبِيحَ لِلمُضطَرِّ أَن يَأكُلَ مِنَ المَيتَةِ بِقَدرِ مَا يَحفَظُ بِهِ حَيَاتَهُ ، وَرُخِّصَ لِلمُسَافِرِ وَالمَرِيضِ أَن يُفطِرَا في رَمَضَانَ . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ لِحِفظِ النَّفسِ ، أَنْ شَرَعَ الزَّوَاجَ مِن أَجلِ التَّنَاسُلِ وَالتَّكَاثُرِ ، وَمِن أَجلِ هَذَا عُدَّتِ العِلاقَةُ الزَّوجِيَّةُ رِبَاطًا مُقَدَّسًا وَمِيثَاقًا غَلِيظًا ، وَجَعَلَ الحَقَّ سُبحَانَهُ مِن آيَاتِهِ خَلقَ الأَزوَاجَ ، قَالَ تَعَالى : " وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِتَسكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً  "

وَفي جِهَةٍ أُخرَى مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاستِمرَارِ البِنَاءِ وَالبَقَاءِ نَجِدُ أَنَّ الإِسلامَ قَد حَرَّمَ الوَسَائِلَ وَالأَسبَابَ المُؤَدِّيَةَ إِلى القَتلِ أَوِ الفِتنَةِ بِالقَولِ أَوِ الفِعلِ ، كَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَإِثَارَةِ الفِتنِ بِالإِيقَاعِ بَينَ النَّاسِ ولو بِكَلِمَةٍ  ؛ لأَنَّ الفِتنَةَ أَشَدُّ مِنَ القَتلِ ، قَالَ تَعَالى : " وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنزَغُ بَينَهُم إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا " وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " لا يَدخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَاحرِصُوا عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ حِفظُ نُفُوسِكُم وَنُفُوسِ إِخوَانِكُم ، بَل وَحِفظُ كُلِّ نَفسٍ مَعصُومَةٍ ، وَمِن ذَلِكَ تَعَلُّمُ مَا تُحفَظُ بِهِ النَّفسُ مِن وَسَائِلِ الإِسعَافِ الأَوَليِّ وَالعِلاجِ المَبدَئِيِّ ؛ لإِنقَاذِ مَرِيضٍ أَو مُصَابٍ في حَادِثٍ أَو نَحوِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُحتَسَبُ فِيهِ الأَجرُ عِندَ اللهِ حِفظًا لِلنَّفسِ وَإِبقَاءً عَلَيهَا حَيَّةً ، وَقَد قَالَ تَعَالى : " وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحيَا النَّاسَ جَمِيعًا "

المرفقات

1663151508_حفظ النفس المعصومة.docx

1663151524_حفظ النفس المعصومة.pdf

المشاهدات 1185 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا