(خطبة) أمر المسلم أن يأكل الطيبات ويعمل الصالحات

خالد الشايع
1445/02/29 - 2023/09/14 17:43PM

الخطبة الأولى ( الأمر بالأكل من الطيب والعمل الطيب )   30/2/1445

إن الحمد لله..                    

أما بعد

فيا أيها الناس: اتقوا الله جل وعلا، واعلموا أن الله مستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون، واعلموا أن الله سبحانه قد جعل الدنيا مضمارًا يتنافس فيه الصالحون بالأعمال الصالحة، وكلما طاب العمل كلما طاب صاحبه، والله لا يقبل إلا الطيب فلنطيب أنفسنا، ونطييب أعمالنا وأقوالنا لترتفع للعالم العلوي فنكون بإذن الله من المقبولين.

أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّباً، وإنَّ الله تعالى أمرَ المُؤْمِنينَ بما أمرَ به المُرسَلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم)، ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يمُدُّ يدَيهِ إلى السَّماءِ: يا رَب يا رب، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حرامٌ، وَغُذِيَ بالحَرَامِ، فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ".

معاشر المؤمنين: إن هذا الحديث تضمن أصولاً عظيمة يجب على المسلم أن يتفطن لها، وأن يعمل بموجبها ليدرك النجاة، وليكون من السابقين.

فهذا الحديث اشتمل على قاعدة عظيمة، وأصل من أصول الدين وهي أن الله لا يقبل من الأعمال والأقوال إلا ما كان طيباً، وهو أنَّه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلِّها، كالرياء والعُجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً، فإنَّ الطيب تُوصَفُ به الأعمالُ والأقوالُ والاعتقاداتُ، فكلُّ هذه تنقسم إلى طيِّبٍ وخبيثٍ.

وقد قسَّم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث، فقال: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة)، وقال: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) ، وقال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ، ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه يحلُّ الطيبات ويحرِّمُ الخبائث.

ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب بقوله تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) وأنَّ الملائكة تقولُ عند الموت: اخرُجي أيتها النفس الطَّيِّبة التي كانت في الجسد الطيِّب، وإنَّ الملائكة تسلِّمُ عليهم عندَ دُخول الجنة، ويقولون لهم: طبتم فادخلوها خالدين، وقد ورد في الحديث عند الترمذي وحسنه أنَّ المؤمن إذا زار أخاً له في الله تقول له الملائكة: "طِبْتَ، وطابَ ممشاك، وتبوَّأْتَ من الجنة منْزلاً".

فالمؤمن كله طيِّبٌ قلبُه ولسانُه وجسدُه، وذلك بما سكن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان وهي داخلة في اسمه كذلك، فهذه الطيباتُ كلُّها يقبلها الله - عز وجل -.

ولقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على أعظم ما يحصل به طيبةُ الأعمَال للمؤمن، وهو طيبُ مطعمه، وأنْ يكون من حلال، فبذلك يزكو عملُه.

والمراد بهذا أنَّ الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالاً، فالعملُ صالح مقبولٌ، فإذا كان الأكلُ غير حلالٍ، فكيف يكون العمل مقبولاً؟

وما ذكره بعد ذَلِكَ من الدعاء، وأنَّه كيف يتقبل مع الحرام، فهوَ مثالٌ لاستبعاد قَبُولِ الأعمال مع التغذية بالحرام.

وقال وُهيب بن الورد: "لو قمتَ مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو حرام".

وأما الصدقة بالمال الحرام، فغيرُ مقبولةٍ كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-: "لا يقبلُ الله صلاةً بغير طهورٍ، ولا صدقةً من غلولٍ".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطَّيِّبَ... "، وذكر الحديث.

اللهم طيّب أعمالنا وأقوالنا، وتقبل منا يا كريم، أقول قولي....

الخطبة الثانية

الحمد لله...

أما بعد فلا يزال الحديث موصولاً عن حديث أبي هريرة في أمر المؤمن أن يكون طيبًا، وقد بيَّن الحديث أن خبث المأكل والملبس يرد الدعاء ويحجب عنه الإجابة كما في قوله: "ثم ذكر الرجل يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السَّماء: يا رب، يا رب، ومطعمُه حرام، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!".

ففي هذا الحديث إشارة منه -صلى الله عليه وسلم- إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابَته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة:

أحدهما: إطالةُ السفر، والسفر بمجرَّده يقتضي إجابةَ الدعاء، كما في السنن من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شك فيهن: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافر، ودعوةُ الوالد لولده".

ومتى طال السفر، كان أقربَ إلى إجابةِ الدُّعاء؛ لأنَّه مَظنّةُ حصول انكسار النفس بطول الغُربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاق، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء.

والثاني: حصولُ التبذُّل في اللِّباس والهيئة بالشعث والاغبرار، وهو -أيضاً- من المقتضيات لإجابة الدُّعاء، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "ربَّ أشعث أغبرَ، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه".

ولما خرج النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- للاستسقاء، خرج متبذِّلاً متواضعاً متضرِّعاً، وكان مُطَرِّفُ بنُ عبد الله قد حُبِسَ له ابنُ أخٍ، فلبس خُلْقان ثيابه، وأخذ عكازاً بيده، فقيل له: ما هذا؟ قالَ: "أستكين لربي، لعلَّه أنْ يشفِّعني في ابن أخي".

الثالث: مدُّ يديه إلى السَّماء، وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إجابته، وفي السنن من حديث سلمانَ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله تعالى حييٌّ كريمٌ، يستحيي إذا رفع الرجلُ إليه يديه أنْ يردَّهما صِفراً خائبتين".

وكان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياضُ إبطيه، ورَفَعَ يديه يومَ بدرٍ يستنصرُ على المشركين حتى سقط رداؤه عن منكبيه.

غير أنه ينبغي التنبه إلى أنه لا تُرفع الأيدي في مواضع الدعاء التي لم يرفع النبي صلى الله عليه وسلم فيها يديه، كدعاء الخطيب على المنبر إلا الاستسقاء والدعاء في الطواف والسعي فإنه لم يثبت رفع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يُشرع الرفع فيها.

والرابع: الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته، وهو مِنْ أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء، وقال يزيد الرَّقاشي عن أنس: "ما مِنْ عبدٍ يقول: يا ربِّ، يا ربِّ، يا ربِّ، إلا قال له ربُّه: لبيك لبيك".

ومن تأمَّل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالباً تفتتح باسم الرَّبِّ، كقوله تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، وقولهِ: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) وقوله: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا). ومثل هذا في القرآن كثير، وقال مالك: "هذه دعوة الأنبياء".

وأما ما يمنع إجابة الدعاء، فقد أشار -صلى الله عليه وسلم- إلى أنّه التوسُّع في الحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذيةً، فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجبٌ لإجابة الدعاء.

وعن وهب بن مُنبِّه قال: "من سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته"، وعن سهل بن عبد الله قال: "من أكل الحلال أربعين يوماً أُجيبَت دعوتُه"، وعن يوسف بن أسباط قال: "بلغنا أنَّ دعاءَ العبد يُحبَس عن السماوات بسوءِ المطعم".

وكما أن فعل المعاصي يمنع من إجابة الدعاء، ففعل الطاعات يكون موجباً لاستجابة الدعاء.

وقال بعض السَّلف: "لا تستبطئ الإجابة، وقد سددتَ طرقها بالمعاصي". وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:

اللهم اجعل رزقنا حلالاً، وأطب مطاعمنا، ومشاربنا، وملابسنا، وغذائنا، واقبل دعواتنا يا رب العالمين، اللهم وفقنا لهداك... اللهم اغفر للمسلمين وللمسلمات.. اللهم أعز الإسلام.. اللهم فرج هم... ربنا آتنا...

 

المرفقات

1694702609_خطبة الأمر بالأكل الطيب.docx

المشاهدات 714 | التعليقات 0