حقيقة الدنيا*
محمد محمد
حقيقة الدنيا-20-5-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَـمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:
لَو قِيلَ لأَحدِنَا: صِفْ لَنَا الدُّنيَا فَلَنْ يَستَطيعَ أَن يَصِفَهَا بِأَحسَنَ مِمَا وَصَفَهَا خَالِقُها حَيثُ قَالَ-سُبحَانَهُ وتَعَالى-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، هَكَذا عِندَمَا يَظُنُّ الإنسانُ أَنَّهُ قَد استَحوَذَ عَليهَا وبَلغَ الكَمالَ، وبينَمَا َهُوَ فِي شَهواتِ الدُّنيَا يَختَالُ، وَإذا بِطَرفَةِ عَينٍ تَتَغيَّرُ اَلأَحوَالُ، فَلا يَبقَى مِنهُ إلا الذِّكرَيَاتُ والأَطلالُ، فَهَل نَستَيقِظُ مِن غَفلَتِنَا قَبلَ حُلولِ الآجالِ؟
أَينَ النُّمْرُودُ الذي قَالَ: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)؟ وَأَينَ فِرعونُ الذي قَالَ: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)؟ وَأَينَ قَارونُ الذي قَالَ: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي)؟ وَأَينَ صَاحِبُ الجَنَّتينِ الذي قَالَ: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)؟ أَينَ هَؤلاءِ الذينَ تَكَبَّروا فِي الأَرضِ وتَجَبَّروا فِيها؟ وأَينَ غَيرُهم مِمَّن مَلكُوا الدُّنيا وَظَنُّوا أَنَّهُم قَادِرونَ عَليها؟
أَيْنَ المُلوكُ الَّتِي عَنْ حَظِّهَا غَفَلَتْ*
حَتَّى سَقَاهَا بِكَأسِ المَوْتِ سَاقِيْهَا
تِلْكَ المَنَازِلُ في الآفَاقِ خَاوِيَةٌ*
أَضْحَتْ خَرَابًا وَذَاقَ المَوْتَ بَانِيْهَا
إخواني: الدُّنيَا دَارُ عَملٍ وكَدحٍ وبذرٍ واجتِهَادٍ، وَفِي الآخرَةِ يَكونُ الحَصَادُ، وَمَن نَظَرَ فِي النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ لا يَجدُ مَدحًا لِلدُّنيَا وَزِينَتِهَا، وإنَّمَا يَرى التَّحذِيرَ مِن خَطَرِهَا وفِتنَتِها، ولِذَلكَ قَالَ اللهُ-تَعالى-لِنَبيِّهِ وخَلِيلِهِ: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ)، أَينَ هَذا ممَا نَراهُ اليَومَ مِن الانغِمَاسِ في الدُّنيَا وَمَا فِيهَا مِن الشَّهَوَاتِ، حَتى أَثَّرَتْ عَلى عَمَلِ الآخِرةِ ومَا أَعَدَّهُ اللهُ فِيهَا مِن نَعيمٍ وجَنَّاتٍ، وَصَدَقَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ-رَحِمَهُ اللهُ-حِينَ قَالَ: "مَثَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ ضَرَّتَانِ، إِنْ أَرْضَى إِحْدَاهُمَا أَسْخَطَ الْأُخْرَى، فَانظُر مَن سَتُرضي مِنهُمَا".
نُرَقِّعُ دُنْيانا بتَمْزيقِ دِينِنَا*
فَلا دِينُنا يَبْقَى وَلا مَا نُرَقِّعُ
الدُّنيَا حُلوهَا عَذابٌ، وفَرَحُها سَرابٌ، وَحلالُها حِسابٌ، وحَرَامُها عِقَابٌ، أوَّلُها عَناءٌ، وآخِرُها فَناءٌ، قَليلَةُ الوَفاءِ، كَثيرةُ الجَفَاءِ، خَسيسةُ الشُّرَكَاءِ، سَريعَةُ الانقِضَاءِ، مَن نَظَرَ إليهَا نَظرَةَ عَقلٍ وَحِكمَةٍ وذَكَاءٍ، عَلِمَ أَنَّهَا رَخِيصَةٌ مُهَانَةٌ عِندَ رَبِّ السَّمَاءِ، قال-عليه الصلاةُ والسلامُ-: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ (تسوى) عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ"، ولِذَلكَ لَمَّا عَلِمَ النَّبيُّ-عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-حَقِيقَتَهَا، عَاشَ فِيهَا وَهُوَ يَنتَظِرُ مُفَارَقَتَهَا، يَقُولُ عبدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "نَامَ رسولُ اللَّه-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عَلَى حَصيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، لوِ اتَّخَذْنَا لكَ وِطَاءً (فراشًا لينا ناعمًا)، فقال: مَا لي وَللدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا".
هَبِ الدُّنْيا تُسَاقُ إليْكَ عَفْوًا*
ألَيْسَ مَصيرُ ذاكَ إلى الزَّوالِ
وما دُنْيَاكَ إلا مِثْلُ فَيْءٍ*
أظَلَّكَ ثُمَّ آذَنَ بِانْتِقالِ
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فيجب علينا أَلا نَنسى أَنَّ وُجُودَنَا في هَذهِ الدُّنيا لِسَبَبَينِ:
الأَولِ: عُقُوبَةٌ عَلى مَا كَانَ مِن أَكلِ الشَّجَرةِ فِي جَنَّةِ السَّمَاءِ، فَأخرَجَنَا اللهُ-تَعَالى-مَنهَا إلى الأَرضِ نَحنُ وأَعدَى الأَعدَاءِ، (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ)، ولِذَلِكَ فَهِيَ كما قالَ-عليهِ الصلاةُ والسلامُ-: "سِجنُ المُؤمنِ وجَنَّةُ الكَافرِ"، فَهَل يَا تُرى نَعودُ إلى مَسكَنِنَا الأوَّلِ؟
فحيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدنٍ فإنَّها*
مَنازِلُنا الُأولَى وفِيها المُخَيَّمُ
ولَكنَّنا سَبيُ العدُوِّ فَهَل تُرَى*
نَعودُ إلَى أوطاَنِنَا وَنُسلَّمُ
وَقَد زَعَمُوا أَنَّ الغَرِيبَ إذاَ نَأى*
وشَطَّتْ بهِ أوطَانُه فهُوَ مُغرَمُ
وأيُّ اغتِرابٍ فَوقَ غرُبَتِنَا الِتي*
لهاَ أَضحَتِ الأعدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ
الثَّاني: أَنَّهَا دَارُ بَلاءٍ وامتِحَانٍ، يُختَبَرُ فِيهَا بَنُو الإنسَانِ، وَلِذَلِكَ بَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ-عَليهِم الصلاةُ والسَّلامُ، وَأَنزَلَ عَليهِم الكُتُبَ، فَمَن صَدَّقَ وَأَطَاعَ واستَقَامَ، فَلهُ النَّجَاةُ والأَمنُ في دَارُ السَّلامِ، وأَمَّا مَن كَذَّبَ وَأَدبَرَ وعَصَى، فَلهُ الخَسَارةُ والخَوفُ ونَارٌ تَلَّظَى، كَمَا قَالَ-سُبحَانَهُ وتَعَالى-: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فَاجعَلُوا هَمَّكُم الآخِرةِ، واجعَلوا مَا آتَاكم اللهُ-تَعالى-مِن مَتاعِ الحَيَاةِ الدُّنيا مِن عِلمٍ وصِحَّةٍ ومَالٍ وجَاهٍ زَادًا لَكُم إلى الآخِرَةِ، قَالَ-عليه الصلاةُ والسلامُ-: "مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ".
اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ، وأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلالِ والإِكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ.
اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لرضاكَ، ونَصرِ دِينِكَ، وإعلاءِ كَلمتِكَ.
اللَّهُمَّ انصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.
اللَّهُمَّ الطفْ بنا وبالمسلمينَ على كُلِّ حالٍ، وبَلِّغْنا وإياهُم من الخيرِ والفرجِ والنصرِ منتهى الآمالِ.
اللَّهُمَّ أحسنْتَ خَلْقَنا فَحَسِّنْ أخلاقَنا.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا ولوالدِينا وأهلِنا والمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ، والهُدى والسَّدادَ، والبركةَ والتوفيقَ، وَصَلَاحَ الدِّينِ والدُنيا والآخرةِ.
اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1732727106_حقيقة الدنيا-20-5-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1732727107_حقيقة الدنيا-20-5-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf
1732727122_حقيقة الدنيا-20-5-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1732727122_حقيقة الدنيا-20-5-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf