حفظ الأنفس والاسعافات الأولية 20-2-1444هـ *حسم التعميم*
محمد آل مداوي
الحمدُ لله؛ خَلَقَ فَقَدَّر، ومَلَكَ فَدَبَّر، وشَرَعَ فيَسَّر، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عَبدُه ورسولُه، وصَفِيُّه وخَلِيلُه، وأمينُهُ على وَحْيِه، ما ترَكَ خيرًا إلا دلَّ الأُمَّةَ عليه، ولا شرًّا إلا حَذَّرها منه، فصَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين. أما بعدُ عباد الله:
فأُوصِي نَفْسِي وإيَّاكُمْ بتَقوَى الله، اتَّقوا اللهَ رَحِمَكُمُ الله، العُمُرُ مُقَدَّرٌ مَحْسُوب، والعَمَلُ مُيَسَّرٌ مَكْتُوب، والوَقْتُ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب، والمَوعِدُ يومُ الحِسَاب. مَنْ أحَبَّ أنْ يكونَ اللهُ مَعَه: فاللهُ معَ الصَّابرين، ومَنْ أحَبَّ أنْ يكونَ اللهُ وليَّه: فاللهُ وليُّ المُتقين، وأكرَمُ النَّاسِ عِندَ اللهِ أتقَاهُم، (وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ).
أيُّها المُسلِمون: قالَ رَبُّكُمْ جَلَّ وعَلا: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)، أقْسَمَ سُبحَانَهُ في هذِهِ الآيةِ بالنَّفْس؛ تَكْرِمَةً لها، وتَنْوِيْهًا بها، وأقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِمَنْ سَوَّاهَا، وهُوَ اللهُ جلَّ وعلا، كمَا قالَ سُبحَانَه: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي). فاللهُ جَلَّ وعلا هو الذِيْ خَلَقَ الإنسَان، ونَفَخَ فيهِ مِنْ رُوحِه، وأَسْجَدَ لَـهُ مَلائِكَتَه، وسَخَّرَ لَهُ ما في الكَونِ جميعًا: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا).
وَمِنْ تَكْرِيْمِ اللهِ جلَّ وعلا لهذِهِ النُّفُوس: أنْ حَرَّمَ سُبحَانَهُ الاعتِدَاءَ عليها، وأمَرَ جَلَّ وعلا بحِفْظِهِا، وأوْصَى عِبادَهُ بذلك، فقالَ جَلَّ شأنُه: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
ومِنْ تَكْريْمِ هذِهِ النَّفْسِ وحِفْظِها: الأمْرُ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عنها؛ فنَهَى النَّبيُّ r عَنْ إِشْهَارِ الحَدِيدَةِ فِي وَجْهِ المُسْلِم، وإِنْ لم تَكُنْ سِلَاحا، وَعَدَّ ذلكَ مِنَ الكَبَائِر، قالَr: (مَنْ أَشَارَ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَلْعَنُه، حَتَّى يَدَعَهُ، وإنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّه) رواهُ مسلم.
ومِنْ تَكْريْمِ اللهِ لهذِهِ النَّفْسِ أيضًا: نَـهْيُهُ جلَّ وعلا عَنْ قَتْلِ الإنسانِ نفسَه، قالَ تعالَى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، وقالَ تعالَى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وقالَ النبيُّ r: (مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) متفقٌ عليه.
ومِنْ تَكْريْمِ هذِهِ النَّفْسِ أيْضًا؛ في دِينِكُمْ عِبَادَ الله: الأَمْرُ بالتَّدَاوِي، والحَثُّ عليه، قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: (تداوَوا عِبادَ اللَّهِ؛ فإنَّ اللَّهَ سُبحَانَهُ لم يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ معَهُ شِفَاءً إلَّا الـهَرَمَ). قالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: (في الأحَادِيثِ الصَّحِيحَة: الأمْرُ بالتَّدَاوِي، وأنَّهُ لا يُنَافِي التَّوَكُّل، كمَا لا يُنَافِيه: دَفْعُ "الجُوعِ والعَطَشِ والحَرِّ والبَـرْدِ" بأَضْدَادِهَا، بل لا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوحِيد؛ إلَّا بمُبَاشَرَةِ الأسبَاب، التي نَصَبَهَا اللهُ مُقْتَضِيَاتٍ لِـمُسَبِّبَاتِـها؛ قَدَرًا وشَرْعًا).
ومِنْ جُمْلَةِ الأسبَابِ المَشْرُوعَة، في حِفْظِ النَّفسِ وتكْرِيْمِها: الاِهْتِمَامُ بِالصِّحَّةِ العَامَّة، والسَّلاَمَةِ الغِذَائيَّةِ والصِّحِّيَّة.. ومَعرِفَةُ الأسبَابِ التي تَقِي مِنَ الأخطَارِ قبلَ وُقُوعِهَا، أو تُعِيْنُ على مُعَالَـجَتِهَا بعدَ حُدُوثِهَا لا قَدَّر الله، كتَعَلُّمِ مَهَارَاتِ الإسعَافَاتِ الأوَّلِيَّةِ مِنْ مَصَادِرِهَا المَوثُوقَةِ في المرَاكزِ المُخْتَصَّةِ أو عَبْرَ الموَاقِعِ الإلكْتُرونِيَّةِ المَأْمُونَة؛ وذلِكَ لإنقَاذِ نفْسِكَ وَمَنْ حَوْلَك، عِندَ الحَاجَةِ لا قَدَّرَ الله، وهو مِنْ فِعْلِ الأسبَابِ المشروعة.. قالَ تعالَى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). قالَ مُجَاهِدٌ: (وَمَنْ أَحْيَاهَا) أَيْ: أَنْجَاهَا مِنْ غَرَقٍ أو حَرَقٍ أو هَلَكَة.
بَارَكَ الله لي ولكم في القُرآنِ والسُّنة، ونفعَنا بما فيهما مِنَ الآياتِ والحِكمة، أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسَائرِ المُسلِمينَ والمُسلِماتِ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ، فاستغفِروهُ، إنَّه كانَ غفَّارا.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ وليِّ المتقين، والصلاةُ والسَّلامُ على المَبعُوثِ رحمةً للعَالَمِين، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى أصْحَابِهِ والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد: ألَا فاتَّقوا الله عِبَادَ الله، واعْلَمُوا أنَّ مِنْ عَظَمَةِ هذا الدِّين؛ أَنْ أَوْجَبَ علَى المُسْلِم: إنقَاذَ مَنْ يَتَعَرَّضُ للأذَى، أو لِخَطَرٍ مِنَ الأَخْطَار، إنِ اسْتَطَاعَ أنْ يُنْقِذَهُ: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، وفي الحَدِيث: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ) رواهُ مسلم.
وممَّا يَنبَغِي علَى المُسْلمِ الحِرصُ عَلَيه؛ طَاعَةً لِرَبِّه، وحِفْظًا لِنَفْسِه: التوَكُّلُ علَى الله، والحِرصُ علَى سَلَامَةِ النَّفْس، بِفِعْلِ الأَسبَابِ الشَّرعِيَّةِ لِذَلِك؛ كالدُّعَاء، والمُدَاوَمَةِ علَى ذِكْرِ الله.. كانَ النبيُّ r يَقولُ في كُلِّ صَبَاحٍ ومَسَاءٍ: (بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيءٌ في الأرضِ ولَا في السَّمَاءِ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيم)، مَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لم تُصِبْهُ فَجَأةُ بَلَاءٍ حتى يُصْبِح، ومَنْ قالَها حينَ يُصْبِحُ ثلاثَ مرَّاتٍ لم تُصِبْهُ فَجَأْةُ بَلَاءٍ حتى يُمْسِي). وقال r: (إذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنزِلًا، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ) رواه مسلم.
ألَا فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله.. تَوَكَّلوا على الله، وعَلِّقُوا قُلوبَكُم بالله، وفَوِّضُوا أمورَكم إلى الله، وَخُذُوا بالأسبَابِ، واذكُروا اللهَ (حِيْنَ تُمْسُونَ وحِيْنَ تُصْبِحُونَ)، وحَافِظُوا علَى مَا أمَرَكُمُ اللهُ بِهِ ورَسُولُهُ؛ مِنْ ذِكْرِ اللهِ سُبحَانَه؛ في الصَّبَاحِ والمسَاء، وعندَ الخُروجِ مِنَ المنزل، ونحوِ ذلك.. واحْمَدُوا اللهَ على دِينٍ كامل، وشَريعَةٍ كاملة، ونِعْمَةٍ تامَّة، وبَلْدَةٍ آمِنَة، ورَبٍّ رَحِيمٍ غَفُور.
اللهمَّ يا حيُّ يا قيوم، يا ذا الجلالِ والإكرام؛ أعِذْنا مِنْ شَرِّ أنفسِنا، ومِنْ شَرِّ الشيطانِ وشِرْكِه، وأنْ نَقتَرِفَ على أنفُسِنا سُوءًا أو نَجُرَّهُ إلى مُسلِم، أعِذْنا وأهلينا مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِيْ شَرٍّ؛ أنتَ آخِذٌ بنَاصِيَتِه، يا ربَّ العالمين.
ثم صلُّوا وسلِّموا على خيرِ خلقِ الله؛ محمدِ بن عبدِالله.. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ r، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشركَ والمشركين، واجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًّا وسائرَ بلادِ المسلمين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين، اللهم كُن لإخواننا المُستضعَفين في دينِهم في كلِّ مكان، اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّدْ بالحقِّ والتوفيق إمامنا ووليَّ أمرِنا، اللهم وفِّقْهُ ووليَّ عهدِهِ لما تحب وترضى، وأعنهما على البر والتقوى يا رب العالمين. اللهم احفظ رجالَ أمننا، وانصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم احفظهم بحفظك التام، واكلأهم بعينك التي لا تنام، يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1663224758_خطب_صفر_3_حفظ_الأنفس_والإسعافات_الأولية.docx
1663224758_خطب_صفر_3_حفظ_الأنفس_والإسعافات_الأولية.pdf
1663224758_خطب_صفر_3_حفظ_الأنفس_والإسعافات_الأولية_نسخة_الجوال.pdf