حَرّ وأنت حُرّ بلا حرب

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1446/01/12 - 2024/07/18 22:07PM

 الحمد لله الذي يخلق مايشاء ويختار وأشهد ألاإله إلا الله وحده لايشريك له يقلب الليل والنهار وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار و وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الصادق المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وسلم تسليما.

أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله حق التقوى واتقوا النار فأجسادكم على النار لاتقوى

وأقبل بعضهم على بعض يشتكون ، قال قائل منهم : ماأقسى الحر وما أتعسه وأسوأه ، يبلل الثياب ويورث الكسل والخمول ويقعد عن العمل ، وقال الآخر : ياليت لنا مثل ماأوتيت دول : أجواء عليلة وأرض جميلة ، وأتبعهم آخرون يتناقلون نكتا وطرائف وتعليقات ساخرة ومقاطع سامجة تسخر من الحر وتصفه بأسوأ الأوصاف .. وما علم هؤلاء على من أساءوا الأدب .. إنهم أساءوا إلى الله في حكمه وتقديره وتدبيره وخلقه ( وماقدروا الله حق قدره ) والحر من الدهر وقد قال ربنا ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر

إن تغير الأجواء وتقليب الليل والنهار من صيف إلى شتاء ومن سكون إلى هواء .. ليل ونهار .. صفاء وغبار .. حرارة تلتهب منها الأقدام وبرودة تتكسر منها العظام كلها بتقدير ذي الجلال والإكرام وإن في ذلك لآية وعبرة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا

إنه الحر دليل من دلائل ربوبية الله سبحانه وتعالى فهو الذي يقلب الأيام والشهور ويطوي الأعوام والدهور ، وهو الواحد الذي لا يتغير سبحانه وبحمده ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون () قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ) فوجوده سبحانه وربوبيتُه وقدرتُه أظهرُ من كل شيء على ألإطلاق .

قال ابن القيم رحمه الله: ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد وقيام الحيوان والنبات عليهما ، وفكِّر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته ، ولو دخل عليه مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأهلكها وبالنبات ، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك .

إنه الحر وفي وجوده لله حكمه فلولاه مااستوت ثمار ولا أينعت أزهار ولا طابت قنوان .. ولولاه ماعرقت أجسام ، وللعرق فوائد لاتعد فكم خلص الجسم من سموم وكم قتل من جراثيم وكم أورث من صحة وقوة وتبارك الله أحسن الخالقين لم يخلق شيئا عبثا بل سخر لكم مافي السموات والأرض جميعا منه

ياأيها المتذمرون من الحر ولهيبه : احمدوا ربكم ، إنه حر لاحرب ، فماقيمة الأجواء الباردة إذا قامت الحروب وانعدم الأمن وساد الخوف وتشتت الأهل وكانت الصحراء مأوى والملاجيء مسكنا

ياايها الشاكون من الحر وسمومه : ماأطيب الحر وأنت حر ، فأي لذة بالأجواء الجميلة وأنت حبيس القيود الثقيلة .. هموم وأحزان .. سجون وديون .. أمراض وأوجاع

إنه الحر ولكنك تجد الظل الظليل والمكان البارد الجميل ، وتجد من وسائل التكييف مايقي الحر ولهيبه .. فأينما كنت وجدت ظلا باردا .. في بيتك في مسجدك في سيارتك في عملك ، فلم السخط والجزع على لحظات يسيرة تلسعك فيها الشمس بحرارتها لتشعرك بنعم الله عليك وقد حرمها كثيرون ( والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون )

إنه الحر ينبغي أن يربطك بالآخرة وأهوالها ويذكرك بمصائر الناس ومآل المجرمين ..

ألا تكون كسلفك الصالح إذا شرب أحدهم ماء بكى وقال تذكرت أمنية أهل النار ( أفيضوا علينا من الماء ... )

أحدنا إذا لسعه الماء بحرارته سب الماء وشتم الأجواء بينما أحد السلف لما استحم وشعر بحرارة الماء على رأسه بكى وقال تذكرت قول الله ( يصب من فوق رؤوسهم الحميم )

وعمر بن عبدالعزيز رحمه الله رأى قوما في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فبكى، ثم أنشد:

من كان حين تصيب الشمس جبهته * أو الغبار، يخاف الشين والشعثا

ويألف الظل كي تبقي بشاشته *    فسوف يسكن يوما راغما جدثا

في ظل مقفرة غبراء مظلمة *    يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا

تجهزي بجهاز تبلغين به *      يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا

إنه الحر ينبغي أن يبعث المؤمن على الخوف من الله سبحانه لأن شدة الحر من فيح جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فنفس من نفس جهنم. فيامن لايطيقون حرارة الأجواء ؛ يامن لا يتحمل الوقوف في الشمس ساعة ، كيف أنتم وحرارة جهنم ؟! والله ثم والله إن أجسادنا على النار لاتقوى

ياعباد الله إنه الحر ابتلاء من الله تعالى لعباده فلا يجوز أن يترك المسلم ما أمره الله به من واجبات ، وحينما نفر رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد في تبوك واستنفر الناس تخلف من تخلف من المنافقين قائلين ( لاتنفروا في الحر ) فجاءهم الجواب المهول ( قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون )

فيامن يدعون للصلاة في الظهر والعصر وهم نائمون ولسان حالهم ( نحن في الحر ) نذكركم أن نار أشد حرا لو كنتم تفقهون

إنه الحر ياعباد الله يذكركم أنَّ هَذهِ الحَياةَ لا تَصلُحُ أَبداً لِلخُلودِ، فَمُنَغِصاتُ العَيشِ فِيها لَيسَ لَها حُدودٌ.  

يَتمنَّى المَرءُ فِي الصَّيفِ الشِّتا *** فإذَا جَاءَ الشِّتاءُ أَنكَرهُ
فهو لايَرضَى بحَالٍ وَاحِدٍ *** قُتلَ الإنسَانُ مَا أَكفرَهُ

فَلا رَاحةَ ولا سَعادةَ إلا في جَناتِ النَّعيمِ، حَيثُ الرَّحمةُ والرِّضوانُ والسُّرورُ المُقيمُ، هُناكَ (لايَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)، (خَالِدِينَ فِيهَا لايَبْغُونَ عَنْهَا حولا

إنه الحر فتذكروا أعظم الصدقات وهي سقي الماء ، وتذكروا من يعمل تحت حرارته ولهيب شمسه لإعفاف نفسه وأهله ، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وقدروا تعبهم وعرقهم ، ولاتزيدوا من همومهم بإذلالهم أو احتقارهم فالراحمون يرحمهم الرحمن

إنه الحر ومن لوازمه أن تتعرق الأجسام وتنبعث الروائح المستكرهة فاحرص ألا تؤذي إخوانك في مجالسهم ومساجدهم فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم

إنه الحر يذكركم  إن كُنتُم في هَذا الحَرِّ، في أَمنٍ في البِلادِ، وعَافيةٍ في الأجسَادِ، وَوَفرةٍ في الزَّادِ، فَإنَّ هُناكَ مَن يَسكُنُ في العَراءِ، حَيثُ لا مَاءَ ولا كَهرباءَ، وهُناكَ ضَحَايا الفَيَضَاناتِ، وهُناكَ حَرائقُ الغَاباتِ، وهُناكَ مَنْ جَليسُهُ الخَوفُ والفَقرُ، وهُناكَ مَنْ أَنيسُهُ الظُّلمُ والقَهرُ، وأَنتَ في نَعيمٍ في هَذا الصَّيفِ. فلم التضايق والتبرم والشكوى

إنه الحر ، فإن كنت هربت منه بسفر أو بحث عن ظل أو تهرّب من عباده فاعلم أن سلف الأمة يحزنون على فراق ظمأ الهواجر وصيام نهار الصيف الطويل ، وماأعظم الفرق بين الثرى والثريا ، وإنما الهموم على قدر الهمم ، وسوف تجد كل نفس ماعملت من خير محضرا

أقول هذا القول ...

 

الخطبة الثانية .. أما بعد :

فياعباد الله ، إذا كانت الشمس في الدنيا تبعد عن أرضنا أكثر من تسعين مليون ميل ، فلانطيق حرها ولا نتحمل لهيبها لحظة من الزمن ، وتلسع أقدامنا بحرارتها فمابالكم بيوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، وفيه تدنو الشمس من الخلائق قدر ميل وليس هناك من ظل ظليل ولا مكان إلا موضع القدمين فكيف تتقون إن عصيتم يوما يجعل الولدان شيبا

في الدنيا نهرب من لهيب الشمس وحرها بما أنعم الله علينا من وسائل التكييف ، ويخفف وطأة الحر نسيم لطيف ومكوثنا تحت حرارة الشمس مكوث طفيف فكيف بيوم طويل وهول جليل

فياأيها المسلمون : من كان يريد في ذلك اليوم العسير ظلا ظليلا ومكانا عليلا فليصنع اليوم عوازل الغد ، وليبن بيته في ظل عرش الرحمن في يوم يلجم الناس العرق إلجاما حتى يصل ببعضهم إلى أن يغرقه «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ»

من كان ينشد ظل عرش الله حيث لاظل في ذلك اليوم إلا ظله فاليوم هو يوم تقديم الثمن

إن أردت ظل الله فَاعمَلْ عَملاً يَجعَلُكَ من أهله، (فالرَّجُلُ فِي ظِلِّ صَدَقَتِه)، (ومَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لاظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)، (وسَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لاَ تَعْلَمُ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)، فَلا ظِلَّ في ذَلكَ اليَومِ، إلا بِعَملٍ صَالحٍ في هَذا اليَومِ.

تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان

ابنوا علاقاتكم على مبدأ الحب في الله وربنا يقول يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي

استدفعوا حر ذلك اليوم وشره بالإقبال على الله واجتناب ماحرم الله والصبر عن معاصيه ومناهيه ( فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لايرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، وأن ليس للإنسان إلا ماسعى ، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم فاتقوا أهوال الغد بأعمال اليوم

نسأل الله أن يوفقنا لما يرضيه ويجنبنا أسباب سخطه ومعاصيه

اللهم صل وسلم ...

المرفقات

1721329623_حر وأنت حر بلا حرب.doc

المشاهدات 1159 | التعليقات 0