جمال الحب النبوي
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، صلى اللهُ عليهِ وسلمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ:
إنها كلمةٌ مكونةٌ من حرفينِ، لكنْ لا تَسَعُها صفحاتٌ تبلغُ الألفينِ.
إنها كلمةُ (الحُبِ) التي تَرمُزُ للعاطفةِ القلبيةِ، ولا تُعبِّرُ عنها الألسنُ والأقلامُ ولا تصِفُها.
إن الحياةَ بلا حُبٍ حياةٌ بائسةٌ يابسةٌ. ولذا جاءَ نبيُّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأعادَ الحُبَّ إلى الحياةِ، وأعادَ الحياةَ إلى الحُبِ. أعادَ الحُبَّ إلى الزوجةِ فجعلَهُ عبادةً: «حَتَى اللُقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلى فيِّ امْرَأتِكَ»([1]). وإلى الأطفالِ فجعلَهُ رحمةً: «إِنَّها رَحْمة وإِنَّما يَرْحمُ اللهُ مِنْ عِبادِه الرُحَماءَ»([2]). وإلى الأُخُوَّةِ فجعلهَا إيماناً: «لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا»([3]).
بل أشاعَ الحُبَ حتى في الجماداتِ، وتَبادَلَ الحُبَ معها، فقالَ عن جبلِ أُحُدٍ: «هَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»([4]).
ثم استنبتَ ذلك الحُبَ في تلك البيئةِ الجافةِ الجافيةِ، فاهتزتْ وربَتْ، وأنبتَتْ من كلِ زوجٍ بهيجٍ. فجعلَ الصحابةَ يتنفسونَ الحُبَ مع الهواءِ الذي يستنشقونَه، ومع الماءِ الذي يشربونَه، وإذا بحثتَ عن السببِ وجدتَ أن أنوارَ النبوةِ أشرقَتْ على نفوسِهم، فأضاءَتْ جوانحُها؛ حيثُ كانَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُسرِجُ قناديلَ الحُبِ في كلِ نواحِي الحياةِ، فهوَ الذي إذا دخلَ بيتَه تعاطَى الحبَّ الزوجيَّ في أجملِ صُوَرِهِ، فكان يتحرَّى أن يلاقِيَ فمُهُ الطيبُ موضعَ فمِها بعدَ أن شربَتْ أو أكلَتْ، وبذلك تحوَّلَتْ حجراتُهُ الصغيرةُ إلى خزائنَ كبيرةٍ للحُبِ.
وكانَ يَعتبِرُ الحُبَّ الزوجيَ المتبادَلَ رزقاً ونعمةً باطنةً، حتى لمن ماتَ من زوجاتِهِ، فها هوَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يتحدثُ عن خديجةَ -رضيَ اللهُ عنها- بعدَ وفاتِها بسنينَ طِوالٍ فيقولُ: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا»([5])، يا لَجَمالِ وصفِ الحُبِ بأنه رِزقٌ كريمٌ من ربِّهِ.
وبدلَ أن يكونَ الحُبُّ الزوجيُّ شعوراً يُستَرُ ولا يُشهَرُ؛ إذا به يَستعلِنُ به، ولا يُدارِي به، فتراهُ يُجيبُ عمرَو بنَ العاصِ وقد سألَهُ: مَن أَحبُّ الناسِ إليكَ؟ فيأتيْ الجوابُ سريعاً كالطلْقةِ: «عَائِشَةُ»([6]).
يقرؤونَ الحُبَ النبويَ الأبويَ يتدفّقُ في مشهدِ عناقِهِ لابنِ ابنتهِ الحسنِ، فجعلَ يَشمُّهُ ويُقبِّلُهُ ويقولُ: «اللهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ»([7]).
فاللهم إنا نُحِبُ الحسنَ والحسينَ وأبوَيهِما وجَدَّهُما -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
كان الحُبُ يَسرِيْ في حياتِهِم وهو يَسكبُهُ في آذانِهِم؛ فتنتعِشُ به نفوسُهُم، فها هو يأخذُ بيدِ معاذٍ فيقولُ له: «يَا مُعَاذُ، وَالله إِنِّي لَأُحِبُّكَ». فيقولُ معاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكَ([8]).
وكانَ يَنثرُ الحُبَّ في طرقاتِ المدينةِ. مرَّ مرةً، فتلقَّاهُ جوارِيْ بنِي النجارِ من الأنصارِ، وجعلْنَ يَضربْنَ بالدُّفوفِ ويَتغنَّينَ ويَقُلْنَ:
نحنُ جَوارٍ من بني النَّجَّـــارِ ** يا حبَّــذا محمدٌ من جـــارِ
فقالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «اللهُ يَعْلَمُ أنَّ قَلْبِي يُحِبُّكُنَّ»([9]).
لقد كانَ يأمرُ بتَعاطِي الحُبِّ والإعلانِ به؛ فقد جاءَهُ رجلٌ فسلَّمَ عليهِ ثم وَلَّى. فقالَ أحدُ أصحابِهِ: يا رسولَ اللهِ! واللهِ إني لأُحِبُ هذا. فقالَ: «هَلْ أَعْلَمتَهُ؟». قالَ: لا، قالَ: «قُمْ فَأَعْلِمْهُ». فَقَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا هَذَا، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي الله. قَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَه([10]). وكانَ يقولُ: «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ»([11]).
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي هَدانا، والصلاةُ والسلامُ على مَن للهُدَى دَعانا، أما بعدُ:
فَنَعَمْ؛ لقد جعلَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابَهُ يَتَعاطَونَ الحُبَّ. ولكنهُ مدَّ أبصارَهم إلى أعظمِ وأعلى الحُبِ، إنهُ حبُّ اللهِ لعبادِهِ وحبُّهم له: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، حتى سَمَتْ أشواقُهم إلى هذا الأفقِ الأعلَى، وهو تَطَلُّبُ حُبِّ اللهِ -عزَّ وجلَّ- من خلالِ الإكثارِ من نوافلِ العباداتِ، كما في الحديثِ القدسيِّ أن اللهَ -تعالَى- يقولُ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»([12]).
ويا لِلهِ أيُّ أفُقٍ قدسيٍ سَمَتْ إليهِ تلك النفوسُ حيثُ كانت تمشِي على الأرضِ وقلوبُها في الملأِ الأعلى، يُعاطِيها اللهُ حُبَّهُ، ويأمرُ ملائكتَهُ أن يحبُّوهُم! ولذا تعيشُ تحبُ لقاءَ اللهِ ويحبُ اللهُ لقاءَها. فاللهم اجعلْنا منهم.
وإن خَفْقَةً قلبيةً من هذا الشعورِ لَتَغمُرُ نعيمَ الدنيا كلَّهِ، وصاحبُهُ يعيشُ في نعيمِ الجنةِ المعجَّلِ. والسؤالُ الصريحُ المهمُّ الذي يجبُ أن يسألَهُ كلٌّ مِنَّا نفسَهُ: هلْ أنا أُحِبُّ اللهَ حقاً، وما علامةُ ذلكَ؟!
فاللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ من يُحِبُّكَ، وحُبَّ عَملٍ يُبلِّغُنا حُبَّكَ.
اللَّهُمَّ اجْعلْ حُبَّكَ أحَبَّ إلينا من أَنْفُسِنا وَأهْلِنا، ومن الماءِ الباردِ.
(اللَّهُمَّ لا تُشْغِلْ قُلُوبَنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ، ولَا تَمْنَعْنَا خَيْرَ مَا عِنْدَكَ بِشَرِّ مَا عِنْدَنَا، ولَا تَرَنَا حَيْثُ نَهَيْتَنَا، ولا تَفْقِدْنَا حَيْثُ أَمَرْتَنَا)([13]).
اللهم ارحمْنا ووالدِينا، وأحْيِنا حياةً تُكسِبُ عملاً صالحًا يُرضِيكَ عنا.
اللهم أمْنًا لبلادِنا، وحِفظاً لجنودِنا، وعِزاً لدينِنا.
اللهم أصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنِا، وافرُجْ لهم في المضائقِ، واكشِفْ لهم وجوهَ الحقائقِ.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
([1]) «صحيح البخاري» (2742)، و«صحيح مسلم» (1628).
([2]) «صحيح البخاري» (1284)، و«صحيح مسلم» (923).
([3]) «صحيح مسلم» (54).
([4]) «صحيح البخاري» (1481).
([5]) «صحيح البخاري» (3818)، و«صحيح مسلم» (2435).
([6]) «صحيح البخاري» (3662).
([7]) «صحيح البخاري» (2122)، و«صحيح مسلم» (2421).
([8]) «سنن أبي داود» (1522).
([9]) «سنن ابن ماجه» (1899).
([10]) «مسند أحمد» (12430).
([11]) «سنن أبي داود» (5124).
([12]) «صحيح البخاري» (6502).
([13]) من دعاء الإمام أحمد. انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 72)
المرفقات
1744289959_��جمال الحب النبوي�.docx
1744289960_��جمال الحب النبوي�.pdf
المشاهدات 842 | التعليقات 2
ما شاء الله تبارك الرحمن
وفقتم وأجدتم
جزاكم الله خير وأحسن إليكم
منصور بن هادي
عضو نشطما شاء الله تبارك الرحمن
نفع الله بك وسدد خطاك وفتح عليك
تعديل التعليق