ترشيد المياه ( بصيغتين )
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَجَلِّ وَأَكْرَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا: نِعْمَةُ الإِسْلاَمِ الَّذِي هُوَ دِينُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: 19]، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ دِينًا غَيْرَهُ الْبَتَّةَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» [رواه مسلم]، وَالإِسْلاَمُ لَهُ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ لاَ يُدْرِكُهَا إِلاَّ مَنِ امْتَلأَ صَدْرُهُ بِهِ، وَخَالَطَتْ بَشَاشَتُهُ قَلْبَهُ، وَاسْتَجَابَتْ نَفْسُهُ مُبَاشَرَةَ أَعْمَالِهِ الْجَلِيلَةِ وَمَعَانِيهِ السَّامِيَةِ وَالَّتِي تَشْمَلُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا مَعًا؛ فَمِنْ مَعَانِي الإِسْلاَمِ السَّامِيَةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْبِيئَةِ، وَتَجَنُّبُ الإِفْسَادِ فِيهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: 60]، وَقَالَ: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾
[الأعراف: 56]، وَقَالَ: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205]
وَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ اسْتِنْزَافِ الْمَوَارِدِ، أَوْ تَبْدِيدِهَا أَوِ التَّبْذِيرِ وَالإسْرَافِ فِيهَا؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُدْوَةً فِي الاِقْتِصَادِ وَعَدَمِ الإِسْرَافِ، وَخَاصَّةً فِي الْمَاءِ، لأَنَّهُ سَبَبُ الْحَيَاةِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [ الأنبياء : 30 ] وَقَالَ سُبْحَانَهُ : ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [ النحل : 65 ]
فَالْمَاءُ نِعْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ ، وَهِبَةٌ إِلاهِيَّةٌ ، مُشَاعَةٌ بَيْنَ النَّاسِ جَمِيعًا يَشْتَرِكُ فِيِهِا البَهَائِمُ وَالطُّيُورُ ، وَمِنْ لُزُومِ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ ، وَذَلِكَ بِتَرْشِيدِ اسْتِخْدَامِهَا فِي الزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالإِحْتِيَاجَاتِ الحَضَرِيَّةِ وَالرَّيِّ ، وَالإِسْتَخْدَامَاتِ الأُخْرَى كَالاِسْتِحْمَامِ وَغَسْلِ السَّيَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّةِ ، حَتَّى فِي الوُضُوءِ وَالذِي هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ يَجِبُ الإِقْتِصَادُ فِي الماءِ فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : « كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ » [ متفق عليه ] ، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ الْحَكِيمُ عَنِ الإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ مَهْمَا كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ لِعِبَادَةٍ، وَلَوْ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ، حِفَاظًا عَلَى اسْتِدَامَتِهِ، وَحِفْظًا لِحَقِّ الأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ فِيهِ ، وَمُحَافَظَةً عَلَى مَصَادِرِهِ ، والدَّوْلَةُ بَارَكَ اللهُ فِيهَا ، تَبْذُلُ الأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ لِتَوْفِيرِ المِيَاهِ لِلنَّاسِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ وَتَجْلُبُهَا مِنْ مَسَافَاتٍ بَعِيدَةٍ ، وَتَعْمَلُ عَلَى تَحْلِيَةِ الْمِيَاهِ وَتَنْقِيَتِهَا ، فَفِيهَا مَشَارِيعُ عِمْلاَقَةٌ لِتَسْخِيرِ جَمِيعِ الإِمْكَانَاتِ لِتَلْبِيةِ حَاجَةِ النَّاسِ مِنْ الماءِ ، وَالذِي يُعْتَبَرُ الشِّرْيَانُ الأَعْظَمُ لِلْحَيَاةِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ نَعِيشُ فِي بِلَادِنَا وَلِلهِ الَحمْدُ فِي أَمْنٍ وَأَمَانٍ وَرَغَدِ عَيْشٍ مُقَارَنَةً بِبَقِيَّةِ بُلْدَانِ العَالَمِ ، لَكِنَّ بِلَادَنَا هَذِهِ بِلَادٌ صَحْرَاوِيَّةٌ شَحِيحَةُ الِميَاهِ إِذْ تَعْتَمِدُ عَلَى الأَمْطَارِ التِي تَهْطُلُ بِكَمِّيَّاتٍ قَلِيلَةٍ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ ، وَلَا تُغَطِّي حَاجَةَ النَّاسِ وَبِالتَّالِي فَلاَ بُدَّ مِنْ الاقْتِصَادِ فِي اسْتِخْدَامِ المَاءِ وِاسْتِشْعَارِ الْمَسْؤُولِيَّةِ تِجَاهَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْمُبَارِكَةِ بِعَدَمِ هَدْرِ المِيَاهِ سَوَاءً فِي الْمَنَازِلِ أَوْ الْمَسَاجِدِ أَوْ الْمَدَارِسِ أَوْ الْمَزَارِعِ حَتَّى نُوَفِّرَ مِنْهَا لِأَنْفُسِنَا وَمُجْتَمَعِنَا وِأَجْيَالِنَا الْقَادِمَةِ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ وَفِعْلَ الْخَيْرَاتِ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ وَامْلأْهَا بِخَوْفِكَ وَرَجَائِكَ وَمَحَبَّتِكَ وَالإِنَابَةِ إِلَيْكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْتًبِرُوا بِحَالِ الأَوَّلِيِنَ وَكَيْفَ عَاشُوا مِنْ عُسْرِ الحَالِ وَشَظَفِ العَيْشِ ، وَنَزْحِ الدِّلَاءِ ، فَقْدَ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى أَفْوَاهِ آبَارِهِمْ ، يَتَوَجَّسُونَ قِلَّةَ الميَاهِ ، وَيَخَافُونَ غَوْرَ الآباَرِ ، وَيَتَأَلَّمُونَ لِقِلَّةِ الأَمْطَارِ ، لِأَنَّهُمْ يَقِفُونَ عَلَى شَفِيرِ الحَالِ ، وَيَعْلَمُونَ أَلَمَ المآلِ ، فَالصَّحْرَاءُ مِنْ حَوْلِهِمْ يَمُوجُ سَرَابُهَا ، وَيُؤْذِنُ خَرَابُهَا ، فَيَرْفَعُونَ الدُّعَاءَ الحَثِيثَ ، إِلَى الكَرِيمِ المُغِيثِ ، كَانَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى اللهِ قَرِيبَةً ، وَلُجُوؤُهَا إِلَى اللهِ عَجِيبَةً ، هُنَالِكَ كَانَ صِدْقُ المَعْرِفَةِ ، صِدْقُ مَعْرِفَةِ اللهِ ، وَصِدْقُ مَعْرِفَةِ الماءِ وَأَهَمِّيَّةِ الماءِ ، وَمَعْنَى القَحْطِ حِينَ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ، وَمَعْنَى الغَيْثِ حِينَ تُمْطِرُ السَّمَاءُ ، فَمَا أَجْدَرُنَا بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ النِّعْمَةِ ، وَمَا أَحْوَجُنَا إِلَى المُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ؛ هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
المرفقات
1617274812_ترشيد المياه.doc
1617274840_ترشيد المياه.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق