بالهدهد يهتدون
عبدالعزيز بن محمد
أيها المسلمون: في زمان اليأس في عصر الشتات، في اضطراب الأمرِ في وقتِ الفتن.. تضيقُ الحياةُ وتقسو، وتتوالى الأزمات وتشتدّ، فَيَظَلُ المسلمُ بإيمانِهِ ملتزماً، وبِقِيَمِهِ مُعْتَزّاً، ولمبادئه مُبْدياً، ولدينه ناصراً وَوَفِيّاً.
يقفُ المسلمُ بإيمانِهِ شامخاً، لا تزعزعه المكائدُ ولا تَثْنِيْهِ الخطوب، ولا تُوْهِنُه المؤامراتُ ولا تَتِيْهُ به الدروب.
تُرْهِقُهُ المواقِفُ وتؤلِمُه.. فيتساقطُ مِنْ يَدِهِ كُلُّ متاعٍ، ويُسْلَبُ من جُعبَتِه كُلُّ نفيس، ويبقى بحبل الله معتصماً وبالعروةِ الوُثْقى مستمسكاً.. يحمي دينَه بدنياه، ويقي إيمانَه بيُمناه، ويفدي ثباتَه بما ملك. مؤمنٌ.. في الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، مؤمنٌ في كل حال. يدعو إلى سبيل الله ويمضي في طريق الناصحين، نَفْعُهُ ظاهرٌ، وَخَيْرُهُ مَبْثُوث، ودعوتُه صادقةٌ، وبركتُه مَنْشورَة.
هادياً مَهدياً، صالحاً مُصلحاً، راشداً مُرشداً، رفيقاً رحيماً.. بالحكمةِ يدعو، وبالحسنى يَعِظْ، يأمر بالمعروف وعن المنكر ينهى. يؤلِمُه أن يرى مُنكراً لا يُنكِرُه، وتائها لا يُرْشِدُه، وفاسداً لا يُصلحه. يؤلمُهُ أن يرى أُمَماً من الناسِ.. في أوديةِ الضلال يَتِيْهُون، وفي شُعَبِ الهوى يَهِيْمون، وخلف دعاةِ الغَيِّ يسيرون.
يَحْمِلُ هَمَّ تبليغِ دينٍ الله لقومٍ جهلوا، لقومٍ أسرفوا، لقومٍ غَرَّهُم طولُ الأمل. قد نسوا يوم الحسابِ، لا يرون النُّصْحَ نُصحاً.. لا يرون الوعظَّ حُباً، لا يرون الدين نهجاً للنجاة.
مؤمنٌ يقتفي درب الرسول.. يستبشر إن رأى تائباً، ويُسَرُّ إن رأى مهتدياً، ويحزَن إن رأى مَنْ عَنِ الدينِ يُعْرِضُ. داعياً في كُل فَجٍّ، هادياً في كل قومٍ، ناصحاً للعالمين، تالياً في الذكر قولاً.. جاءَ في الوحي المبين: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
مؤمنٌ يقتفي درب الرسول.. يرتجي خيرَ الثواب، يبتغي حُسْنَ الجزاء، أقسم المختار يوماً.. قولَ صدقٍ في يمين : «..فَوَالله لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
مُؤْمِنٌ يقتفي درب الرسول.. متفائلٌ متفاعلٌ له نفسٌ أبية، ينشر الخيرَ ويدعو للهدى، يُظهِرُ الدينَ ويهدي الحائرين. يَحْمِلُ رسالةَ الله للكبراء والعظماء، كما حملها سيد الأنبياء (مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى . أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) رواه البخاري ومسلم كما يحمل رسالةَ الله للمرضى وللمستضعفين، وللمُحتَقَرِينَ وللبائسين، مِصْداقُ قول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} قال أنسٌ رضي الله عنه: كان غلامٌ من اليهودِ يَخدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَالَ: أَسلِم . فَنَظَرَ ــ الغلامُ ــ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَالَ لَه: أَطِع أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. فَأَسلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: الحَمدُ لِلَّهِ الذِي أَنقَذَهُ مِنَ النَّارِ) رواه البخاري
مؤمنٌ يقتفي درب الرسول.. وَسِيْطُ نَفْعٍ، وَدَلِيْلُ صلاح، وسمسارُ دعوةٍ، وساعي هداية.. يقتنصُ الفُرْصَةَ ويُفَعِّلها، ويبتدرُ الموقفَ ويستثمره، في دعوةٍ إلى الله ونُصحْ وتذكيرٍ، وأمر بالمعروفِ ووعظٍ وتَبْصِير، لا يحتقر نَفْسَه في بَذلِ خير، ولا يزدري قُدُراتِه في نشر معروف. مُهتدياً له في الهدهدٍ خيرُ اهتداء.. طائرٌ طوفَ الأرضَ بعيداً.. أبصرت عيناه أمراً مُنْكَراً. أبصرتِ قوماً عِظاماً ذو عقولٍ مُدرِكة، شيَّدوا في الأرض ملكاً، سعيهُم في مهلكة، أشركوا بالله شمساً هم لها دوماً خضوع، سُجَّداً في غير هَدْيٍ في انكسارٍ وخشوع. أَسِفَ الهُدهدُ مِنْ تِلْكَ العقول، فانبرى يمضي حثيثاً يشتكيهم للرسول. أَيْ نَبِيَ اللهِ أدرك في سبأ ما يصنعون؟! أدرك التوحيدَ إني شاهدٌ ما يشركون.
وفي موقفٍ مهيب من أيامِ مُلْكِ سليمانَ عليه السلام إذ {..حُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} حشروا بين يديه.. أمرُهم عادَ إليه، لم يكُن فيهم غوياً، لم يكن فيهم عصيا، هُمْ جُنُودُ طائعون.. {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} طائرٌ ضعيفٌ.. أدلى بِدَلوٍ في طريقِ الدعوةِ، لم يَقلْ إني ضعيف، لم يقل كيف السبيل؟ لم يرى الأمرَ عسيراً، لم يقابِلْ بالصدود. أثمرَ الجهدُ ثماراً يانعة، أقبلوا لله صدقاً طائعين، تقودُهم من كانت تملكهم، ولها عرشٌ عظيم {..قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بارك الله لي ولكم..
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين. صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين، وسلم تسليماً أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: إنَّ دِيْنَ اللهِ صَرْحٌ شَامِخٌ، مَنْ أَوَى يأَوِي لحصن الآمنين، عَدَتْ الأعداءُ كَيْ تَقْضِي عَلَيْهِ، أجلبوا بالمكرِ والحقدِ الدفين. أنفقوا للحربِ مالاً، بذلوا للصدِّ أصناف العتادِ، في جحودٍ وعِنَاد. لَكِنْ الجبارُ ذو العرشِ المجيد.. قد قضى بالحكم أنْ لا يُنْصَرون، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}
خابَ مكرُ الماكرين، بار سعي الكافرين، جاء حكم الله في وحي مُبين {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
وَسَيَعْلُوْ دِيْنُ رَبِّي في الوجُوْد، وَسَيَسْرِيْ فِيْ فِجَاجِ الأرض يجتازُ الحدود، في ظهورٍ وعلوٍ، في سموٍ وصعود، عن تَميم الداري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقول: «ليَبْلغنَّ هذا الأمرُ ــ أي الدينُ ــ ما بلغَ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بعِزِّ عزيز أو بذُلِّ ذليل، عزاً يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلاً يُذل الله به الكفر) رواه الإمام أحمد
عباد الله: إنَّ دِيْنَ الله منصورٌ.. وعلى مَتْنِ هداةٍ مخلصينَ، يُحمَلُ الحقُّ المبين، مَنْ تَوَلَّى أو تَوانى، أو تَخَلَّى أو وَهَن، لَن يَضُرَّ الله شيئاً والجزاء للصابرين. {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} إنَّ دِيْنَ الله منصورٌ.. في سبيل الدِّيْنِ كَمْ حَفَّت مَكَارِه، كَمْ حُظُوظٌ قد تلاشت من نفوسِ الصادقين. في سبيل الدِّيْنِ أرواحٌ تباع، في سبيل الدِّيْنِ أموالٌ تُؤدَّى، في سبيل الدين إيثارٌ وبذلُ. ذاك دأبُ المرسلين. {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}
إنَّ دِيْنَ الله منصورٌ.. سارَ ركبُ الأكرمين، إلْـحَقِ الركبَ سريعاً، في جموع الفائزين. أَسْدِ نُصْحاً، وانشرِ الحقَّ المبين، وادعُ مَن تاهت خطاهُ في غمارِ التائهين، بَلِّغ الدينَ بصدقٍ، عَلِّمِ القرآنَ، أظهر سُنةَ الهادي الأمين. أدلِ دلواً في طريقِ الدعوةِ، لا تَقُلْ إني ضعيف، لا تَقل كيف السبيل؟ عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قال: (بلِّغوا عني ولو آية) رواه البخاري
عباد الله: وأعظمُ دعوةٍ يقومُ المرءُ بها. دعوةُ الأهل والأقربين، يُعِيْنُ مُجْتَهِداً، ويُبَشِّر طائعاً، ويَعِظُ عاصياً، ويُذَكِرُ غافلاً، ويكون قدوةً حسنةً لهم في كُل مسلكٍ كريم.
كَمْ صَدِيقٍ لك قد رأيتَ على منكرٍ فما قَوَّمتَه؟ وكَمْ جارٍ لك على غفلةٍ فما ذَكَّرتَه؟ وكَمْ مُسلمٍ مررت به على معصيةٍ فما وعظتَه؟ وكَمْ كافرٍ مِن عاملٍ وخادمٍ لم تسعَ في هدايته وجُهْدُكَ ما بذلتَه؟ تفطَن فإن العمرَ محدود السنين، وَلَسَوْفَ تَمْضِي عَنْ قَرِيْبٍ في عداد الراحلين. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، واجعلنا من أنصار الدين..
المرفقات
1613046323_بالهدهد يهتدون.doc