المِــيْــزَانُ الأَكْـــبَـــرُ
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فهو المهتدِيْ، ومن يُضللْ فلا هاديَ له. وأشهدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُهُ صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبهِ وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بعدُ:
فاتقوا اللهَ فتقوَى اللهِ ما ... جاورَتْ قلبَ امرئٍ إلا وصلْ
أيُها المؤمنونَ: لقد جاءَنا من ربِنا نبأٌ عظيمٌ، وخبرٌ جسيمٌ، بأننا تُحصَى علينا ألفاظُنا وألحاظُنا في كتابٍ لا يغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.
لكنْ بأيِ شيءٍ تُقدَّرُ؟ وعلى أيِ شيءٍ تُقوَّمُ؟ وبأيِ شيءٍ يَعرِفُ العبدُ مدَى إحسانِهِ وإساءتِهِ؟ الجوابُ اسمعوه من كلامِ ربِنا (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين) إنها موازينُ حسيةٌ عادلةٌ دقيقةٌ جدًا، كلُ ميزانٍ له كِفّتانِ، والكفةُ الواحدةُ تَسَعُ السماواتِ والأرضَ وما بينَهما، وتلكَ الكفةُ الضخمةُ الهائلةُ تضطربُ وترجَحُ أو تطيشُ بمثاقيلِ الذرِ من الأعمالِ.
لكنْ: ما نتيجةُ تلكَ الموازينِ العظيمةِ؟ الجوابُ في قولهِ تعالَى:{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ}.
فكيفَ ستكونُ فرحتُك حين يؤتَى بطاعةٍ وفِّقتَ إليها وقد نسيتَها أو استصغرتَها فإذا هيَ قد كبُرَتْ بعظيمِ إخلاصِكَ، فتوضَعُ في كفةِ حسناتِك فتراها ترجَحُ بسيئاتِك. فاللهم ثقِّلْ موازينَنا؟! أم كيفَ سيكونُ قلبُكَ وأنت ترى جريرةً من جرائرِكَ يؤتَى بها ويُلقَى بها في كِفةِ السيئاتِ فتطيشُ كِفةُ حسناتِك، وتتلفَّتُ إلى ذرةٍ من خيرٍ عَلّها تُعيدُ كِفةَ الحسناتِ إلى الرجحانِ فلا تجِدُ؟!
إن الإيمانَ العميقَ بحقيقةِ الميزانِ يجعلُنا نُعيدُ النظرَ في علاقاتِنا مع من حولَنا، فيومَ الوزنِ يتبرأُ الإنسانُ من كل قرابةٍ، ويتنصلُ من كلِ علاقةِ {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
ذلكَ أن في ذلك الميزانِ لا وزنَ للأقوالِ المزخرفةِ والعباراتِ المنمقةِ. في ذلك الميزانِ لا وزنَ للشهرةِ والهِندامِ، ولا للجاهِ والمالِ، إنه ميزانٌ آخرُ لا يَعبأُ من القولِ إلا ما كان صوابًا، ولا من الفعلِ إلا ما كان أحسنَ عملاً. يقول r: إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. وَقَالَ: اقْرَءُوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}. متفق عليه([1]).
أيُها المؤمنونَ: إذا تذكرْنَا الميزانَ وهولَ ساعتِهِ فإن ذلكَ يحفّزُنا على مَلءِ كفتيهِ بأثقلِ الأعمالِ الصالحةِ، فقد تُكتبُ لنا النجاةُ بواحدةٍ منها أو ببعضِها. والإيمانُ بالميزاِن يغرسُ في نفسِ المؤمنِ الشحَ بالحسناتِ، والحرصَ على الدقائقِ قبل الساعاتِ، فيَحفظُ حسناتِهِ من أن تحرِقَها الغِيبةُ أو يمحوَها الرياءُ، ثم يَملأُ أوقاتَهَ بما يُثقّلُ موازينَهُ لا يَحقِرُ منها شيئاً.
الحمدُ للهِ مُولِينا، والصلاةُ والسلامُ على هادِينا، أما بعدُ:
فمن أعظمِ ما يثقل الميزانَ كلمةُ التوحيدِ؛ فقد صحَّ أن رسولَ اللهِ r قال: إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى؛ إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ. فَتُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ! قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كَفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ؛ فَلاَ يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ([2]).
ومن أعظمِ ما يُثقِّلُ الميزانَ ذكرُ اللهِ تعالى. قال r: كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ. متفقٌ عليهِ.
وهلْ هناكَ عملٌ يسيرٌ يملأُ الميزانَ على عظمتِهِ؟! الجوابُ: نعمْ؛ في كلمتينِ اثنتينِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ([3]).
ومما يثقِّلُ الميزانَ امتثالُ قولِهِ r: مَا مِنْ شَىْءٍ أَثْقَلُ فِى الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ([4]).
· فاللهم ثقِّل موازينَنا، واحفظ لنا دينَنَا.
· اللهم وفقنا للصالحاتِ قبلَ المماتِ، وأرشدنا إلى استدراكِ الهفواتِ، من قبلِ الفواتِ. وألهمنا أخذَ العدةِ للوفاةِ قبلَ الموافاتِ، وارفع عنا خطايا الخطواتِ إلى الخطيئاتِ، وهب لنا في الدنيا لذةَ المناجاةِ، وفي الآخرة سرورَ التحياتِ، وبلّغْنا ما لا تبلغُه آمالُنا وأعمالُنا من الخيراتِ.
· اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ، أَلاَ تَنْزِعَهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحنُ مُسْلِمونَ([5]).
· اللهم وفَّقْ وليَّ أمرِنا ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بناصيتِهِما للبرِّ والتقوى. وارزقهمْ بِطانةَ الصلاحِ والفلاحِ.
· اللهم ادفعْ عنا باقيَ البلاءِ والوباءِ، ومتِّعنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوتِنا.
· {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}
([1]) صحيح البخاري( 4452 ) وصحيح مسلم ( 2785 ).
([2]) سنن الترمذي (2639). حسنه الترمذي واستغربه، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي -على شرط مسلم- والألباني.
([3])صحيح مسلم (223)
([4]) سنن أبى داود(4801)
([5]) من دعاء عبد الله بن عمر t وهو على الصفا. رواه مالك في الموطأ بالسلسلة الذهبية (1/ 372).
المرفقات
1643291556_الميزان الأكبر.docx
1643291557_الميزان الأكبر.pdf