القَبول والرَّد لعِمل العبد

محمد بن سليمان المهوس
1442/07/10 - 2021/02/22 14:16PM

الخُطْبَةُ الأُولَى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا مِنْ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ قَبُولُ عَمَلِ الْعَبْدِ؛ فَذَاكَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ هِمَمُ الصَّالِحِينَ، وَخَافَتْ مِنْ أَجْلِهِ قُلُوبُ الْمُتَّقِينَ؛ إِذْ هُوَ مَقْصُودُ الْعَمَلِ وَغَايَتُهُ الَّتِي لأَجْلِهَا نَصَبُوا وَاجْتَهَدُوا، وَهُوَ مَا كَانَ يَلْهَجُ بِطَلَبِهِ الْخَلِيلُ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ –عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ– حِينَ كَانَا يَرْفَعَانِ قَوَاعِدَ الْكَعْبَةِ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127]، وَهُوَ مَا كَانَتْ -أَيْضًا– تَسْأَلُهُ امْرَأَةُ عِمْرَانَ حِينَ نَذَرَتْ حَمْلَهَا خَادِمًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35].

تَقُولُ عَائِشَةُ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- : «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ أَيْ: ظَنَّتْ عَائِشَةُ -رَضِي اللهُ عَنْهَا- أَنَّ الْمُرَادَ بِالآيَةِ: أَهْلُ الْمَعَاصِي، مِنْ شَارِبِي الْخَمْرِ أَوِ السَّارِقِينَ، وَأَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِهَذِهِ الأَفْعَالِ وَفِي قُلُوبِهِمْ خَوْفٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ. قَالَ: «لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ تُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ» [رواه الترمذي، وصححه الألباني].

رُويَ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اهْتِمَامًا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَدْرَكْتُهُم يَجْتَهِدُونَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِذَا فَعَلُوهُ وَقَعَ عَلَيْهِمُ الْهَمُّ أَيُقْبَلُ مِنْهُمْ أَمْ لاَ.

وَمِمَّا انْعَقَدَ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّ لِقَبُولِ الْعَمَلِ شَرْطَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ يَجِبُ الْحِرْصُ عَلَيْهِمَا وَالْعِنَايَةُ بِهِمَا جَمِيعًا؛ أَحَدُهُمَا بَاطِنٌ وَهُوَ: الإِخْلاَصُ للهِ الْمُنَافِي لِلشِّرْكِ بِأَنْوَاعِهِ، وَمَعْنَى الإِخْلاَصِ هُوَ: أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 2، 3]، وَقَالَ سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» [رواه البخاري].

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» [رواه مسلم]، وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ شَرْطٌ ظَاهِرٌ؛ وَهُوَ: الْمُتَابَعَةُ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [ الحشر : 7 ]

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ » [رواه مسلم].

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الإِخْلاَصَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَطَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَالْغُرُورِ، وَأَعْمَالَنَا مِنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ، وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَقَوْلِ السُّوءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْذَرُوا مَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْعَمَلِ، وَذَلِكَ بِاخْتِلاَلِ أَحَدِ شُرُوطِهِ، أَوْ مُلاَبَسَتِهِ أَحَدَ الْمَوَانِعِ، وَالَّتِي مِنْهَا: الْمَنُّ وَالأَذَى، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [البقرة: 264]، وَمِنْهَا: الاِعْتِدَاءُ عَلَى حُقُوقِ الْخَلْقِ وَظُلْمُهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ– قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟». قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».

فَاتَّقُوا اللهُ -عِبَادَ اللهِ-، وَحَقِّقُوا هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ تَفُوزُوا وَتَنْجُوا مِنَ الشِّرْكِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، وَمِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ بِأَشْكَالِهَا، وَحَافِظُوا عَلَى حَسَنَاتِكُمْ قَبْلَ ذَهَابِهَا لِغَيْرِكُمْ. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].

المرفقات

1614003386_القبول والرد لعمل العبد.doc

المشاهدات 1214 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


وجزاك وبارك فيك