الـمراءُ والجدالُ*

محمد محمد
1446/04/28 - 2024/10/31 16:55PM

الـمِراءُ والجدالُ-29-4-1446ه-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَـمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ:

فعِندَمَا تَرى الـمُجَادَلاتِ العَقِيمَةَ في أَمَاكِنِ التَّجَمُّعَاتِ، وتَسمعُ فِي وَسَائلِ التَّواصلِ ضَجيجَ الخُصُومَاتِ، تَتَذَكَّرُ تِلكَ القُصورَ العَاليَّةَ، في جَوانِبِ الجَنَّةِ الغَاليَّةِ، التي تَكَفَّلَ بِهَا رَسُولُ اللهِ-عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، لِصنفٍ مِن النَّاسِ عَظِيمِ الـمَقَامِ، فَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَا زَعِيمٌ (ضَامِنٌ) بِبَيْتٍ فِي ‌رَبَضِ ‌الْجَنَّةِ (نَوَاحِيهَا وَجَوَانِبِهَا) لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ (الجِدَالَ) وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا"، وَعدٌ وَضَمَانٌ مِن رَسولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-بِهَذا البَيتِ والقَصرِ، فَمَنْ يَأَخذُ بِهَذهِ الوَصيَّةِ ويَحوزُ هَذا الخَيرَ والأَجرَ؟

 إخواني: كَثيرٌ مِنَ النِّقَاشاتِ الحَادَّةِ فِي هَذهِ الأَيَّامِ، لَيسَ لَهَا مِنَ الحَقيقةِ زِمامٌ ولا خِطامٌ، إنَّمَا هِيَ "قالوا" وَسَمِعتُ وأَظُنُّ وبَعثَرةُ كَلامٍ، والنَتيجَةُ الخِلافُ بِينَ الأَصدِقَاءِ والخِصَامُ، قِيلَ لِعَبدِ اللهِ بنِ حَسنٍ-رَحِمَهُ اللهُ-: "مَا تَقُولُ في الـمِرَاءِ؟ قَالَ: يُفسِدُ الصَّدَّاقَةَ القَدِيمَةَ، وَيَحُلُّ العُقدَةَ الوَثِيقَةَ"، وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ والعقلاءِ: إنَّ ‌الْمِرَاءَ ‌أَكْثَرُهُ ‌يُغَيِّرُ ‌قُلُوبَ ‌الْإِخْوَانِ، وَيُوَرِّثُ التَّفْرِقَةَ بَعْدَ الْأُلْفَةِ، وَالْوَحْشَةَ بَعْدَ الْأُنْسِ، وقَد أَحسَنَ مَن قَالَ:

‌وَاحْذَّرْ ‌مُجَادَلَةَ ‌الرِّجَال فَإِنـَّهَا*

                       تَدْعُو إِلى الشَّحْنَاءِ وَالشَّنَآنِ

ذَلِكَ المُجَادِلُ عَلَى كُلِّ أَحوَالِهِ، الغَليظُ في أَفعَالِهِ وأَقوالِهِ، الذي لا يُراعي لِمَن أَمَامَهُ احتِرَامًا ولا تَوقيرًا، ولا يَعرِفُ لِلحِوارِ أَدَبًا ولا تَقدِيرًا، هُو مِن أبغضِ الرِّجالِ إلى اللهِ-تَعالى-وإلى عِبادِهِ، قالَ رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "‌أَبْغَضُ ‌الرِّجَالِ ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌الْأَلَدُّ الْخَصِمُ (شَدِيدُ الخُصُومَةِ)"، وَقَالَ بِلالُ بنُ سَعِيدٍ-رَحِمَهُ اللهُ-: "إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ ‌لَجُوجًا ‌مُـمَارِيًا، مُعْجَبًا بِرَأْيِهِ، فَقَدْ تَـمَّتْ خَسَارَتُهُ".

إنَّ انشِغَالَ الأَفرَادِ والمُجتَمَعاتِ بِالـمُمَاراةِ والجِدَالِ، هُوَ عَلامَةُ الجَهلِ والانتِكَاسَةِ والضَّلالِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "مَا ‌ضَلَّ ‌قَوْمٌ ‌بَعْدَ ‌هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)"، ولِذَلكِ قَالَ الأَوزَاعيُّ: "إذَا أَرَادَ اللهُ بِقَومٍ شَرًّا ألزَمَهم الجَدَلَ، ومنَعَهم العَمَلَ"، وَصَدَقَ-رَحِمَهُ اللهُ-، فَإنَّ الهُدَى والعِلمَ الحَقيقيَّ يَدعو إلى العَمَلِ، ولا تَرى صَاحبَهُ غَافِلًا في مَجَالسِ اللَّهو والجَدَلِ، وصَدقَ القائلُ:

تَعْلَّمِ العِلْمَ واعْمَلْ ما اسْتَطَعْتَ بِهِ*

                         لا يُلهِيَنَّكَ عَنْهُ اللَّهْوُ والجَدَلُ

فَكَم أَذهَبَ الـمِرَاءُ مِن هَيبَةٍ وَوَقارٍ، وكَم أَوقَعَ صَاحِبَهُ في الإثمِ والعَارِ، يَقُولُ الأصمَعيُّ: "سَـمِعتُ أعرابيًّا يقولُ: مَن لاحَى الرِّجالَ وَمَارَاهُم (جادَلـَهم)  قَلَّتْ كَرَامتُهُ، وَمَنْ أَكثَرَ مِن شَيءٍ عُرِفَ بِهِ"، وهَكَذا ما يَزَالُ الرَّجلُ كَريـمًا مَهِيبًا عِندَ الرِّجَالِ، حَتى تَسقُطَ مُرُوءَتُه بِسبَبِ الـمِراءِ والجِداَلِ، وأَمَا العَاقِلُ العَالِمُ فَيَقولُ الحَقَّ بِدَلِيلِهِ وبُرهَانِهِ، ثُمَّ لا يَخُوضُ مَعَ أَهلِ البَاطِلِ وأَعوانِهِ، يَقُولُ الإمَامُ مَالِكُ بِنُ أَنسٍ-رَحِمَهُ اللهُ-: "الـمِراءُ والجِدالُ في العِلمِ يَذهَبُ بنورِ العِلمِ من قَلبِ العبدِ، فَقِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ له عِلمٌ بالسُّنَّةِ أيجادِلُ عنها؟ قال: لا، ولكِنْ ليُخبِرْ بالسُّنَّةِ، فإنْ قُبِلَ منه وإلَّا سَكَتَ".

أَستغفرُ اللهَ لي ولكم وللسلمينَ...

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ كما يـُحِبُ ربُنا ويرضى، أما بعدُ:

فإنَّنَا نَرى اليَومَ أنَّ الـمِراءَ والجِدَالَ قَد بَلغَ مَرحَلَةً خَطِيرةً، وَقَد خَاضَ النَّاسُ فِي مسائلَ مُعَقَّدةٍ كَبيرةٍ، فَقَطَّعُوا جَسَدَ الأَمَّةِ الوَاحدَ إلى أَشلاءٍ، واستَهَانوا في حُرمَةِ الـمُقَدَسَاتِ والدِّمَاءِ، فَيَا فَرحَةَ الأَعدَاءِ وَهُم يَرونَ المُسلِمينَ في خِصامٍ وخِلافٍ، يَتَقَاذَفُونَ بينَهُم الاتـِّهَامَاتِ وسَيءَ الأَوصَافِ، فَأَينَ هَذا مِنَ الأُخوَّةِ فِي الإيـمانِ، والتَّواصي بِالبِّرِ والإحسانِ، يَقُولُ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ-رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-: "لَنْ يُصِيبَ رَجُلٌ حَقيقةَ الإيـمانِ حتَّى يترُكَ الـمِراءَ، وَهُو يَعلَمُ أنَّه صَادِقٌ"، إنـَّهَا الحِكمَةُ في تَخفِيفِ الضَّرَرِ والشِّقَاقِ، ومُحَاولةِ الوُصولِ إلى حُلولٍ واتِّفَاقٍ، وَلَكِنْ صَدَقَ اللهُ-تَعَالى-: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ*فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بـِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

فَكَم حُرِمَ النَّاسُ مِنَ الخَيرِ بِسَببِ الـمُجَادَلاتِ والخُصومَاتِ، وَكَم عُوقِبَتْ الأُمَّةُ بِسَببِ مَا ارتَكَبَهُ بَعضُ الناسِ مِن جَهَالاتِ، وَاسـمَعوا إلى هَذا الـمِثَالِ، في خَطَرِ الخِصَامِ والجِدالِ، يَقُولُ عُبَادةُ بنُ الصَّامتِ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "خَرَجَ النبيُّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-لِيُخْبِرَنَا بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الـمُسْلِمِينَ (تَخَاصَمَا وتَجَادلا) فَقَالَ: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ"، يَقولُ العُلمَاءُ: "وفي الحَديثِ ذمُّ المُلاحَاةِ والخُصومةِ، وأنـَّهما سَببُ العُقوبةِ للعامَّةِ بذَنْبِ الخاصَّةِ"، فَإلى مَتى والأُمَّةُ فِي بَلاءٍ، بِسَبَبِ الجِدَالِ والـمِراءِ؟!

اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ، وأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلالِ والإِكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ.

اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، وفقهمْ لرضاكَ، ونَصرِ دِينِكَ، وإعلاءِ كَلمتِكَ.

اللَّهُمَّ اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه.

اللَّهُمَّ عليك بأعداءِ الإسلامِ والمسلمينَ وعليكَ بالظالمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ، حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، لا إلهَ إلَّا هوَ عليهِ توكلنا وهو ربُّ العرشِ العظيمِ.

اللَّهُمَّ إنَّا نجعلُكَ في نـُحورِهم، ونعوذُ بكَ مِنْ شرورِهم.

اللَّهُمَّ إنَّا والمسلمينَ مَغْلُوبُونَ مُسْتَضْعَفُونَ فانتصرْ لنا يا قويُ يا عزيزُ.

اللَّهُمَّ انصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.

اللَّهُمَّ الطفْ بنا وبإخوانِنِا المستضعفينَ على كُلِّ حالٍ، وبَلِّغْنا وإياهُم من الخيرِ والفرجِ والنصرِ منتهى الآمالِ.

اللَّهُمَّ يا شافي اِشْفِنا وأهلَنا والـمسلمينَ والـمسالِمين.

اللَّهُمَّ (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).

اللَّهُمَّ أحسنْتَ خَلْقَنا فَحَسِّنْ أخلاقَنا.

اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا ولوالدِينا وأهلِنا والمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ، والهُدى والسَّدادَ، والبركةَ والتوفيقَ، وَصَلَاحَ الدِّينِ والدُنيا والآخرةِ.

اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالـَمينَ.

المرفقات

1730382919_الـمِراءُ والجدالُ-29-4-1446ه-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx

1730382919_الـمِراءُ والجدالُ-29-4-1446ه-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf

المشاهدات 69 | التعليقات 0