الغضب .. ذمّه وعلاجه | د. محمد العريفي

،

الغضب .. ذمّه وعلاجه .



( الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم والخبير * يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم والغفور ) ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، جلَّ عن الشبيه وعن المثيل وعن النظير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .

أما بعد :

أيها الأخوة المؤمنون :
فإن ظاهرة من الظواهر النفسية ، قد غلبت على بعض النفوس ، فدفعت أقواماً لتطليق زوجاتهم ، وآخرين لقتل أحبابهم ، وآخرين لإيذاء أولادهم ، أو إفساد أرزاقهم وتنغيص عيشهم .
كم أفسدت هذه الظاهرة من بيوت ، وكم هدمت من أرحام وعلاقات ، ألا وهي ظاهرة الغضب .. وهي ظاهرة تحتاج إلى تهذيب وتدريب وذلك بمعرفة أسبابه وآثاره وكيفية علاجه .

أما الغضب فهو حرارة تنتشر داخل الجسد عند وجود ما لا يعجب فيغلي عندها الدم طلباً للانتقام ، فيتصرف هذا الغاضب من غير اتزانٍ ولا حِكْمة ، ويتفاوت الناس في الغضب إلى ثلاث درجات :
الدرجة الأولى : درجة الـمُفْرِطين ، الذين لا يغضبون أبداً ولا حَمية لهم ، مهما وقع أمامهم من عصيان لأوامر الله ، أو مس حرمتهم أو كشف عوراتهم ، فيكون أحدهم كالجدار لا يحس ولا يعقل ، وقد قال الشافعي رحمه الله في هذا النوع : من استُغْضِب فلم يغضب فهو حمار ..

الدرجة الثاني : درجة المفرطين المغالين فيه ، وهم الذين تغلبهم هذه الصفة حتى يخرج أحدهم من حُكم عقله فيتصرف بلا حِكمة فيضرب أو يقتل أو يفعل أشياء يندم عليها إذا زال عنه غضبه وانفك عنه شيطانه ..

قال أحد الدُّعاة : ذهبت مرة لألقي محاضرة في أحد السجون فأدخلت إلى الجناح الخاص بمن عليهم قضايا قتل فإذا فيه مائة وأربعون رجلاً ما بين شاب وشيخ وبعد أن انهيت المحاضرة وقفت أستمع بعض ما عندهم من قصص فإذا ثلاثة أرباعهم ما دفعهم إلى جريمة القتل إلا شدة الغضب وكل واحد منهم ينتظر تنفيذ حكم الله تعالى فيه والنبي صلى الله عليه وسلم قال :" ليس الشديد بالصُّرَعةِ إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب " متفق عليه .

أما الدرجة الثالثة من درجات الناس في الغضب : فهم المعتدلون وهم الذين لا يضيعون هيبة غضبهم بكثرة الغضب ، وإنما يغضبون إذا انتهكت محارم الله ، كأن يرجع أحدهم إلى منزله فيجد أولاده لم يصلوا في المسجد ، أو يقع من أحد أسرته مخالفة شرعية فيغضب بحسب المخالفة لتأديبهم ، فإذا كان غضبه قليل الوقوع صار مَن حولَه يتقون من غضبه ويخافونه ، أما إذا كان يغضب على كل شيء ، فهذا يذهب من النفوس هيبة غضبه ، ويصبح غضبه ورضاه شيئاً واحداً .

وَلا خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
وَلا خَيْرَ فِي جَهْلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَلِيمٌ إِذَا مَا أَوْرَدَ الأَمْرَ أَصْدَرَا


أيّها الأخوة الكرام :

ولقد ذمَّ النبي صلى الله عليه وسلم الغضب في أحاديث كثيرة ، من ذلك ما في الصحيحين من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه : أنه استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وأحدهما يسب صاحبه مغضباً وقد احمرَّ وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ما نزل بالرجل من غضب هو من الشيطان .

وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال :" لا تغضب " فردد مراراً : أوصني .. أوصني .. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على :" لا تغضب " .
فهذا الرجل ردد السؤال لعله يسمع وصية أنفع وأبلغ فلم يزد على قوله لا تغضب ، وهذا يدلّ على أن الغضب يجمعُ الشرَّ كله ..
وروى البخاري أن أبا بكرة رضي الله عنه كتب إلى ابنه وكان بسجستان بأن لا تقضِ بين اثنين وأنت غضبان ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يقضينّ حكم بين اثنين وهو غضبان " .


قال ابن القيم رحمه الله : جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :" لا تغضب " خيري الدنيا والآخرة ، لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ، ودلَّ أن الغضب يجمع الشر كله ، فهو مفتاح الفتن والآثام ، وبريد التفرق والانقسام ، ويستدل به على ضعف العقل والإيمان " .
فمن حافظ على هذه الوصية :" لا تغضب " ، حاز خيري الدنيا والآخرة ..

أيّها المسلمون :

وما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط . ( إي لا يغضب لتقصير من حوله في حظوظ نفسه إلا إن تُنْتَهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله تعالى غضب ) ..متفق عليه

فأين حاله صلى الله عليه وسلم ممن يشتد غضبه ويسب ويلعن ، وقد يطلّق أمَّ أولاده إذا تأخر غداؤه أو عشاؤه ، أو لو وقف بسيارته عند إشارة وأضاءت خضراء وتأخر من أمامه بالمشي أو غير ذلك من مجريات الحياة .
نُشر في بعض الجرائد أن عدد حالات الطلاق في إحدى المدن ، في العام المنصرم فقط قد بلغت أكثر من ثلاثة آلاف حالة طلاق ، أي بمعدل 10 حالات كل يوم تقريباً ، فبالله عليكم هل تظنون أن جميع هؤلاء الأزواج قد أمضوا قرارات الطلاق بناءً على تفكير و تَرَوٍّ ونظرٍ وتأمل ، أم أنها أكثرها مبينة على غضب واستعجال .
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه ، وأمانته عند طمعه ، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب ، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع " .
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد أمرائه : لا تعاقب عند غضبك ، وإذا غضبت على رجل فاحبسه ، فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه .
وقال ابن القيم رحمه الله :" دخل الناسُ النارَ من ثلاثة أبواب : باب شُبهة أورثتْ شَكّاً في دين الله ، وباب شهوة أورثتْ تقديم الهوى على طاعته ومرضاته ، وباب غضب أورث العداون على خلقه " .
قال مجاهد رحمه الله : قال إبليس لعنه الله : مهما أعجزني بنو آدم فلن يعجزوني في ثلاث : إذا سكر أحدهم أخذنا بحزامته فقُدناه حيث شئنا وعمل لنا بما أحببنا ، وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم ، ونبخّله في دينه ونُمنّيه ما لا يقدر عليه " .

فالغضب أيها الأحبة:
يُغضِب الرحمن ويرضي الشيطان ، وهو كثيراً ما يذل الإنسان لأنه يعقبه الاعتذار واللوم ، وهو قد يؤثر في البدن أمراضاً من خرس لسان أو جنون عقل أو مس شيطان ، أو أمراض صداع وضغط وغير ذلك .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين ..


الخطبة الثانية


الحمد لله المتفرد بكل كمال ، والشكر له فهو المتفضل بجزيل النوال ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم وشريف الخلال ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل ، والتابعين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد أيها الأخوة الكرام :

وإذا تبين لنا قبيح أثر الغضب ، يرد علينا سؤال مهم وهو : كيف يتخلص المسلم من الغضب ، فيكون ذلك بأمور :
الأول : أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، ويدل عليه الحديث الذي تقدم لما استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما حتى احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد .متفق عليه.

الثاني : أن يجلس إن كان واقفا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) رواه أحمد.

الثالث : إن زال عنه الغضب وإلا فليتوضأ لما جاء في الحديث الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ "رواه أحمد .

الرابع : أن يتفكر في الأمر الذي أغضبه ويقدّر لو أنه وقع أكبر مما هو عليه ، مثل أن يغضب لأن فلاناً سبَّـه أمام الناس فحتى يُزيل عنه ما غلبه من الغضب ، ليتفكر لو أن فلاناً لم يكتف بسبه بل ماذا لو ضربه .. أو بصق في وجهه .. عند ذلك يحمد اله: أن الأمر وقف عند السب فقط ، فيزول غضبه .

الخامس : أن يتذكر ما مدح الله تعالى به عباده المؤمنين بقوله لما ذكر الجنة : ( أُعِدَّت للمتقين ) ثمَّ بيَّن صفاتهم فقال : ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) ووصف الله المؤمنين بأنهم ( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) .

السادس : أن يتذكر الإنسان أنه بغضبه وغلظته تنفر عنه النفوس وتبغضه القلوب ، وأنه بحلمه ولينه تنعطف عليه القلوب ويحبه الناس ، فليختر أحب الأمرين إليه .
سئل عرابة الأوسي : بماذا سُدْتَ قومك ؟ قال : كنت أحلم عن جاهلهم ، وأعطي سائلهم ، وأسعى في حوائجهم .
وكان ابن عون لا يغضب فإذا أغضبه الرجل التفت إليه وقال : بارك الله فيك .
ومرَّ عيسى عليه السلام بقوم من بني إسرائيل فسبّوه ، فردَّ عليهم خيراً ، فقيل له : إنهم يسبّونك ، وتقول لهم خيراً ؟ فقال : كل ينفق مما عنده .

نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال .. اللهم حسن أخلاقنا ، وارزقنا العدل في الغضب والرضا .. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ..
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ... ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم .... ونسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الخير والهدى يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.




خطب سابقة
مكانة العلماء في الأمة
الثبات على الدين
الرجوع إلى الحق
القول على الله بغير علم
إصلاح ذات البين
التنافس في الخيرات
أهمية توحيد الله

المشاهدات 3667 | التعليقات 0