الثبات على الدين | د. محمد العريفي
مكتب الشيخ د. محمد العريفي
1438/04/27 - 2017/01/25 17:00PM
،
الثبات على الدين
الحمد لله عالم الخفيات، المطلع على السَّرائر والنِّيات، ولا يَخفى عليه شيٌء في الأرض ولا في السموات، أحمده سبحانه أن هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأسأله أن يجعلنا من خير أُمةٍ أُخرِجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ". وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للناس بشيراً ونذيراً، لتطيعوه وتتبعوه لعلكم تفلحون، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ..
أيها الأخوة الكرام :
إن هذه الآيات تَحكي قِصًّة أصحاب الأُخْدُود ، هؤلاء الذين فُتِنوا في دينهم ، هؤلاء الذين أُحرِقوا في خنادق النار مع نسائهم وأطفالهم ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) وكان نكالاً دنيوياً بالِغ القَسَّوة وجريمة نكراء .. عندما يُقاد أولئك المؤمنون الأطهار إلى خنادق وحفر أُضرِمت فيها النار هم ونساؤهم وأطفالهم ليُلقَوا فيها لا لشيء إلاّ لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد ، حتى تأتي المرأة معها طفلها الرضيع تحمله ، حتى إذا أوقفت على شفير الحفرة والنار تضطرم فيها خافت وتراجعت لا خوفاً من النار ولكن رحمةً بالطفل فيُنْطِق اللهُ الطفلَ الرضيع ليقول لها مؤيداً مثبتاً : يا أماه ! اصبري فإنك على الحق ، فتقتحم المرأة الضعيفة والطفل هذه النار .
( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .
أصحاب الأخدود قوم آمنو بالله العظيم .. وذَلّوا للجبار جل جلاله ثم لم يمضِ على إيمانهم لحظات .. حتى حفرت الحفر في الطرقات وأضرمت فيها النيران .. ثم جُمِعُوا وصرخ بهم الصَّارخ مَنْ لم يرجع عن دينه قَذفناهُ فيها " يا للهِ العجب فتنة في الدين " وصد عن سبيل رب العالمين ... فماذا فعل هؤلاء والذين ما مضى على إيمانهم إلاّ سويعات .. هل ارتدوا .. هل تراجعوا .. كلا .. بل جعلوا يتسابقون فيها ويتدافعون .. ويَقتحمون لظى هذه النيران . وما لجرح إذا أرْضَاكُمُ أَلَمُ ..
فلو شهدت عيناك يوم حريقهم *** لسالت جفونٌ بالدموع الهواطل
فكم عَاتِق غَرَّاء تَبْكِي شُجونها *** وأرملة ثَكْلَى وحُبْلَى وحــائل
وفرقت الأحباب في كل حفـرة *** وسار بهم حزب العدو المــزايل
وتسقط من بطن الحوامل حملها *** وتذهل أخيار النساء المطـــافل
يسوقونهم سوقاً عنيفاً بشــدة *** يزجون أشياخاً بتلك القوافـــل
ما الذي ثبتهم ؟ .. ما الذي حثهم ؟ وهم لم يؤمنوا إلا من لحظات ..
إنه ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) .
هذا هو الثبات على الدين ، مع شدة الفتن وكَثرة المغريات ..
ماشطة بنت فرعون تلك المرأة الضعيفة المسكينة التي كانت تقتات هي وأطفالها الثلاثة .. من مشط ابنة فرعون وتسريح شعرها .. إنه لعمل مغر تشتاق إليه النساء أن تكون إحداهن من حاشية العائلة المالكة ..
هذه المرأة خالط الإيمان بشاشة قلبها فعلمت أنه لا إله إلاّ الله الواحد القهار ..
فكانت تمشط ابنة فرعون فسقط المشط من يدها فقالت : بسم الله .. فبدرت الصغيرة قائلة : تعنين الله : أبي ؟! .. فقالت الماشطة بلسان المؤمنة الثابتة : بل اللهُ ربي ورب أبيك .. فصاحت البنت : سأخبر أبي ، فقالت : أخبريه .. فلما أخبرته استشاط غضباً ، أن سمع أن إلهاً غيره يُعبد .. فناداها وقال لها : من ربك ؟ أنا ؟! فقالت : بل ربي وربك الله .. فأمر بقدر عظيمة فطبخ فيها زيت حتى غلا .. ثم أوقفها أمام القدر وأمر بأكبر أبنائها .. فألقي في القدر وهي تنظر فما هي إلا لحظات حتى طفحت عظامه بيضاء أمام ناظريها .. ثم جبذ الآخر وكان يصيح متمسكاً بطرف ثوبها فألقي في القدر فما هي إلاّ لحظات حتى طفحت عظامه بيضاء في أعلى القدر .. ثم جبذ الثالث الرضيع وكانت تحمله على صدرها .. جُبِذَ ثم أُلْقِي في القدر لتختلط عظامه بعظام إخوته .. ثم ألحقت هي بهم في هذه القدر المغلية ..
( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) سبحان الله ! ما الذي ثَبَّتها في هذا البلاء ؟ .. ما الذي صَبَّرها على هذا العذاب ؟.. إنه ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) .
– أيها المسلمون - :
ثم انظروا إلى موسى عليه السلام لما تحدى فرعون بسحره .. وواعده يوم الزينة .. انظروا إلى موقف فرعون لما جمع كيده ثم أتى .. أتى ليغلب موسى .. أتى ليعلن كفره .. فجمع كيده فكم جمع فرعون لموسى من السحرة ؟ ..
قال وهب بن قتيبة : كانوا خمسة عشرة ألف ساحر .. وقال السدي : بل جمع بضعة وثلاثين ألف ساحر ..
هذا العدد العظيم من السحرة اجتمعوا أمام موسى .. كلهم مَعَه حَبْله وعَصَاه .. اجتمعوا فقالوا : ( قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) ..
فيلقي موسى عصاه فإذا هي حية تأكل ما سحروا من حبال وعصي .. فيعلم السحرة أنهم أمام نبي مرسل ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) الآن آمنوا .. الآن اهتدوا .. ثمّ الآن فتنوا ! قال فرعون ( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) قالوا : ( لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ويصبر هؤلاء المؤمنون على ما يُصيبهم .. ويَتحملون ما يُؤذِيهم .. ويتجرعون ما يحزنهم .. ما الذي صبَّرهم .. ما الذي قوَّاهم إنه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) ..
بارك اللهم لنا في القرآن العظيم ، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، اللهم ارزقنا السير على هدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم . آمين يا رب العالمين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، ورضي لنا الإسلام دينا ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله .. جعلنا على المحجة البيضاء . . ليلها كنهارها .. لا يزيغ عنها إلا هالك : أما بعد :
أيها الإخوة في الله :-
إن الثبات على الدين .. أمر لا بد أن يحرص عليه كُلُّ مسلم .. فبعض المسلمين الآن إذا تمسك أحدهم بالدين والتزم بشعائره .. ثم سمع استهزاء المستهزئين .. أو احتقار التافهين .. أو سمع فتنة المهتدين .. ضَعُفتْ قواه .. وطاوع الفاسقين على ما يريدون ..
ولو أنه تدبر ما أصاب الذين من قبله لعلم أنه ليس وحده في الميدان .. ( ألم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) ..
أيها الأخوة الكرام :
من عوامل الثَّبات على دين الله :
الإقبال على الطاعات كقراءة القرآن وقيام الليل والإكثار من صلاة النوافل .. ومن عوامل الثبات : الدعاء .. والالتجاء إلى الله تعالى والتضرع إليه .. ومن عوامل الثبات : مخالطة الصالحين .. والبعد عن الفاسدين المضيعين .. ومن عوامل الثبات : طلب العلم الشرعي .. ومن عوامله أيضاً : تصور ما أعد الله من النعيم لمن أطاعه .. ومن العذاب لمن عصاه ..
نسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ..
اللهم ثبتنا على دينك .. اللهم ثبتنا على السنة الصحيحة .. والنية الخالصة لك وحدك .. اللهم إنا نسألك الثبات في الآخرة ، والعزيمة على الرشد ، والغنيمة من كل بر ، ونسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار .. ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ..
سبحان ربك رب العزة عما يصفون .. وسلام على المرسلين .. والحمد لله رب العالمين ..
خطبة سابقة
مكانة العلماء في الأمة
الثبات على الدين
الحمد لله عالم الخفيات، المطلع على السَّرائر والنِّيات، ولا يَخفى عليه شيٌء في الأرض ولا في السموات، أحمده سبحانه أن هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأسأله أن يجعلنا من خير أُمةٍ أُخرِجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ". وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للناس بشيراً ونذيراً، لتطيعوه وتتبعوه لعلكم تفلحون، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ..
أيها الأخوة الكرام :
إن هذه الآيات تَحكي قِصًّة أصحاب الأُخْدُود ، هؤلاء الذين فُتِنوا في دينهم ، هؤلاء الذين أُحرِقوا في خنادق النار مع نسائهم وأطفالهم ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) وكان نكالاً دنيوياً بالِغ القَسَّوة وجريمة نكراء .. عندما يُقاد أولئك المؤمنون الأطهار إلى خنادق وحفر أُضرِمت فيها النار هم ونساؤهم وأطفالهم ليُلقَوا فيها لا لشيء إلاّ لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد ، حتى تأتي المرأة معها طفلها الرضيع تحمله ، حتى إذا أوقفت على شفير الحفرة والنار تضطرم فيها خافت وتراجعت لا خوفاً من النار ولكن رحمةً بالطفل فيُنْطِق اللهُ الطفلَ الرضيع ليقول لها مؤيداً مثبتاً : يا أماه ! اصبري فإنك على الحق ، فتقتحم المرأة الضعيفة والطفل هذه النار .
( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .
أصحاب الأخدود قوم آمنو بالله العظيم .. وذَلّوا للجبار جل جلاله ثم لم يمضِ على إيمانهم لحظات .. حتى حفرت الحفر في الطرقات وأضرمت فيها النيران .. ثم جُمِعُوا وصرخ بهم الصَّارخ مَنْ لم يرجع عن دينه قَذفناهُ فيها " يا للهِ العجب فتنة في الدين " وصد عن سبيل رب العالمين ... فماذا فعل هؤلاء والذين ما مضى على إيمانهم إلاّ سويعات .. هل ارتدوا .. هل تراجعوا .. كلا .. بل جعلوا يتسابقون فيها ويتدافعون .. ويَقتحمون لظى هذه النيران . وما لجرح إذا أرْضَاكُمُ أَلَمُ ..
فلو شهدت عيناك يوم حريقهم *** لسالت جفونٌ بالدموع الهواطل
فكم عَاتِق غَرَّاء تَبْكِي شُجونها *** وأرملة ثَكْلَى وحُبْلَى وحــائل
وفرقت الأحباب في كل حفـرة *** وسار بهم حزب العدو المــزايل
وتسقط من بطن الحوامل حملها *** وتذهل أخيار النساء المطـــافل
يسوقونهم سوقاً عنيفاً بشــدة *** يزجون أشياخاً بتلك القوافـــل
ما الذي ثبتهم ؟ .. ما الذي حثهم ؟ وهم لم يؤمنوا إلا من لحظات ..
إنه ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) .
هذا هو الثبات على الدين ، مع شدة الفتن وكَثرة المغريات ..
ماشطة بنت فرعون تلك المرأة الضعيفة المسكينة التي كانت تقتات هي وأطفالها الثلاثة .. من مشط ابنة فرعون وتسريح شعرها .. إنه لعمل مغر تشتاق إليه النساء أن تكون إحداهن من حاشية العائلة المالكة ..
هذه المرأة خالط الإيمان بشاشة قلبها فعلمت أنه لا إله إلاّ الله الواحد القهار ..
فكانت تمشط ابنة فرعون فسقط المشط من يدها فقالت : بسم الله .. فبدرت الصغيرة قائلة : تعنين الله : أبي ؟! .. فقالت الماشطة بلسان المؤمنة الثابتة : بل اللهُ ربي ورب أبيك .. فصاحت البنت : سأخبر أبي ، فقالت : أخبريه .. فلما أخبرته استشاط غضباً ، أن سمع أن إلهاً غيره يُعبد .. فناداها وقال لها : من ربك ؟ أنا ؟! فقالت : بل ربي وربك الله .. فأمر بقدر عظيمة فطبخ فيها زيت حتى غلا .. ثم أوقفها أمام القدر وأمر بأكبر أبنائها .. فألقي في القدر وهي تنظر فما هي إلا لحظات حتى طفحت عظامه بيضاء أمام ناظريها .. ثم جبذ الآخر وكان يصيح متمسكاً بطرف ثوبها فألقي في القدر فما هي إلاّ لحظات حتى طفحت عظامه بيضاء في أعلى القدر .. ثم جبذ الثالث الرضيع وكانت تحمله على صدرها .. جُبِذَ ثم أُلْقِي في القدر لتختلط عظامه بعظام إخوته .. ثم ألحقت هي بهم في هذه القدر المغلية ..
( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) سبحان الله ! ما الذي ثَبَّتها في هذا البلاء ؟ .. ما الذي صَبَّرها على هذا العذاب ؟.. إنه ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) .
– أيها المسلمون - :
ثم انظروا إلى موسى عليه السلام لما تحدى فرعون بسحره .. وواعده يوم الزينة .. انظروا إلى موقف فرعون لما جمع كيده ثم أتى .. أتى ليغلب موسى .. أتى ليعلن كفره .. فجمع كيده فكم جمع فرعون لموسى من السحرة ؟ ..
قال وهب بن قتيبة : كانوا خمسة عشرة ألف ساحر .. وقال السدي : بل جمع بضعة وثلاثين ألف ساحر ..
هذا العدد العظيم من السحرة اجتمعوا أمام موسى .. كلهم مَعَه حَبْله وعَصَاه .. اجتمعوا فقالوا : ( قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) ..
فيلقي موسى عصاه فإذا هي حية تأكل ما سحروا من حبال وعصي .. فيعلم السحرة أنهم أمام نبي مرسل ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) الآن آمنوا .. الآن اهتدوا .. ثمّ الآن فتنوا ! قال فرعون ( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) قالوا : ( لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ويصبر هؤلاء المؤمنون على ما يُصيبهم .. ويَتحملون ما يُؤذِيهم .. ويتجرعون ما يحزنهم .. ما الذي صبَّرهم .. ما الذي قوَّاهم إنه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) ..
بارك اللهم لنا في القرآن العظيم ، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، اللهم ارزقنا السير على هدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم . آمين يا رب العالمين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، ورضي لنا الإسلام دينا ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله .. جعلنا على المحجة البيضاء . . ليلها كنهارها .. لا يزيغ عنها إلا هالك : أما بعد :
أيها الإخوة في الله :-
إن الثبات على الدين .. أمر لا بد أن يحرص عليه كُلُّ مسلم .. فبعض المسلمين الآن إذا تمسك أحدهم بالدين والتزم بشعائره .. ثم سمع استهزاء المستهزئين .. أو احتقار التافهين .. أو سمع فتنة المهتدين .. ضَعُفتْ قواه .. وطاوع الفاسقين على ما يريدون ..
ولو أنه تدبر ما أصاب الذين من قبله لعلم أنه ليس وحده في الميدان .. ( ألم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) ..
أيها الأخوة الكرام :
من عوامل الثَّبات على دين الله :
الإقبال على الطاعات كقراءة القرآن وقيام الليل والإكثار من صلاة النوافل .. ومن عوامل الثبات : الدعاء .. والالتجاء إلى الله تعالى والتضرع إليه .. ومن عوامل الثبات : مخالطة الصالحين .. والبعد عن الفاسدين المضيعين .. ومن عوامل الثبات : طلب العلم الشرعي .. ومن عوامله أيضاً : تصور ما أعد الله من النعيم لمن أطاعه .. ومن العذاب لمن عصاه ..
نسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ..
اللهم ثبتنا على دينك .. اللهم ثبتنا على السنة الصحيحة .. والنية الخالصة لك وحدك .. اللهم إنا نسألك الثبات في الآخرة ، والعزيمة على الرشد ، والغنيمة من كل بر ، ونسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار .. ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ..
سبحان ربك رب العزة عما يصفون .. وسلام على المرسلين .. والحمد لله رب العالمين ..
خطبة سابقة
مكانة العلماء في الأمة