العروة الوثقى
عبدالعزيز بن محمد
أيها المسلمون: في طريقِ العبوديةِ.. يسيرُ المؤمنُ إلى ربِه على صراطٍ مستقيم، مستمسكاً بالعروةِ الوثقى شهادةِ التوحيدِ.. أن لا إله إلا اللهُ وأن محمداً رسول الله، مؤمناً بها حقاً، قائماً بها صدقاً.. كافراً بالجبتِ والطاغوت، مُتبرئاً مَن كل ما يُعبد مِن دون الله.
شهادَةُ التوحيدِ.. مَن جاءَ بها على وجهها ومات عليها، وَجَبَت له الجنةُ، وَحُرِّمَت عليْهِ النار، في حديثِ عِتْبَانَ بنَ مَالِكٍ t أن رسول الله r قال: (إنَّ اللهَ قد حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إلهَ إلا اللهُ يَبْتَغِيْ بِذَلِكَ وَجْهَ الله) رواه البخاري ومسلم
مَنْ قَالَ: لا إلهَ إلا اللهُ يَبْتَغِيْ بِذَلِكَ وَجْهَ الله، مُخلِصاً بها قلبُه، عالماً بمعناها، أن لا معبودَ بِحَقٍّ إلا اللهُ وحده لا شريك له، عاملاً بمقتضاها، مُوَفٍّ لِشُرُوطِها: عِلمٌ ويقينٌ ومحبة، وإخلاصٌ وصدقٌ وقبولٌ وانقياد.
* عِلمٌ بشهادةِ التوحيدِ وفِقْهٌ بحقيقةِ معناها {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك}
* وَيَقِيْنٌ مُسْتَقِرٌّ بالقلبِ بشهادةِ التوحيدِ، فلا شَكَّ يخالطُ اليقينَ ولا رَيْب {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِّينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} * وَقبولٌ لمقتضى شهادةِ التوحيدِ ورضا بها {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} * وانقيادٌ واستسلامٌ لما تَضَمَّنَتْهُ شهادةُ التوحيدِ وعدمُ تمردٍ عليها {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى} * وصِدْقُ إيمانٍ بشهادة التوحيدِ، فلا كذبَ يُخالِطهُ ولا تَقَلُّبَ عنها، ولا نفاقَ {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
* ومحبةٌ لِشَهادَةِ التوحيدِ ولِما دَلَّت عليه.. وبُغضٌ لكل مَنْ كَفَرَ بها وخالَفها {ومِنَ الناسِ مَنْ يَتخذُ مِنْ دُونِ اللهِ أنداداً يُحِبونَهُم كَحُبِّ اللهِ والذين آمنوا أشدُّ حُباً لله}
* وإخلاصٌ لله بالعبادةِ، فلا شِركَ ولا رياء {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} * ثم كُفْرٌ بكل ما عُبِدَ مِن دون الله، إذ إنَّ شهادةَ التوحيدِ تقتضي أن يَكْفُرَ العبدُ بكل ما خالفها.
تلك شُرُوْطُ كَلِمَةِ التوحيدِ التي لا يتحققُ إسلامُ المرءِ إلا بها. فَمَنْ قال: (أشهدُ أن لا إله إلا اللهُ) ثم أخَلَّ بشيءٍ مِن هذه الشروطِ، تَخَلْخَلَ إسلامُه، وتهاوى إيمانُه.
* وقرينةُ شهادةِ أن لا إله إلا الله.. شهادةُ (أنَّ محمداً رسولُ الله) إقرارٌ بها بالقلبِ، ونٌطًقٌ بها باللسان، عَنْ عِلْمٍ وصدقٍ وَيَقِينٍ أن محمد بنَ عبدِ الله بن عبدالمطلب، هو رسولُ الله حقاً إلى جميع الثقلين الجنِّ والإنسِ، عَرَبِهم وعَجَمِهِم، وأنَّهُ خاتَمُ النبيين، فلا نَبِيَّ بَعْدَه إلى يوم القيامَة. وأنَّ الله لا يَقبلُ عَمَلَ عاملٍ ما لم يَكُنْ مُتَّبِعاً فيه لهديِ محمدٍ r، وأنَّ مَنِ اعتقدَ أنَّ بَعْضَ الناسِ يَسَعُهُ الخروجُ عَنْ شَريعةِ محمد r فقد كَفَر. وأن حقيقةَ الإيمان بأن محمداً رسولُ الله.. تقتضي.. طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. قال ابن بازٍ رحمه الله: (وهاتان الشهادتان ــ شهادةِ أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ الله ــ هما أصلُ الدينِ وأساسُ الملةِ، فَمَنْ نَطَقَ بِهِمَا مُعْتَقِداً معناهما فهو مسلمٌ، وعليه أن يؤديَ بَقِيَّةَ الحقوقِ، مِنْ صَلاةٍ، وزكاةٍ، وَصَومٍ، وَحَجٍّ، وغيرِ هذا مما أمر اللهُ به ورسولُه، وعليه أن يجتنبَ ما حرَّمَ اللهُ ورسولُه، مِنْ سائر المحرماتِ، مِن الأقوالِ والأعمال،ِ تحقيقاً لهاتين الشهادتين) ا.هـ
عباد الله: إن شهادةَ أن لا إله إلا اللهُ وأن محمداً رسولُ الله، أعظمُ كرامةٍ ، وأكرمُ مِنَّةٍ يَمُنُّ اللهُ بها على عبدٍ مِن عبادِه. لا تُنالُ بِحِدَّةِ ذكاءٍ ولا بوفرَةِ عَقل، ولا ببسطةِ جسمٍ ولا بكثرةِ مال، ولا بِشَرَفِ نَسَبٍ ولا بِمكانةٍ وسُلطان. إنما هي.. مِنَّةٌ يَمُنُّ اللهُ بها على من يشاءُ مِن عبادِه، فَيُهَيِّئُ لُهُ أسبابها، ويُيَسِّرُ له طَرِيْقَها، ويُقِيْمُ له أعلامَها. فيَشْرَحُ صَدْرَه للإسلام، فيرضى باللهِ رباً، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمدٍ r نبياً، يستقيمُ على الدينِ فلا ينحرِفُ عنهُ ولا يتحول، ولا يَمِيْلُ عنه ولا يتذبذبُ ولا يتأول، بل ثباتٌ راسخٌ واستقامةٌ تامة.
* إن الهدايةَ للإسلام.. مِنَّةٌ يَمُنُّ الله بها على عَبْدٍ عَلِمَ اللهُ أنَّ لهُ قلباً يَقْبَلُ الحقَّ ولا يستكبر، ويستجيبُ للهدايةِ ولا يُعرِضُ عنها ويُدْبِر {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}
وإنَّ عبداً شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإسلامِ.. لحريٌّ بِه أن يَتَشَبَّثَ به، وأن لا يحيدَ طرفةً عنهُ، وأن يَتَعَلَّمَ أحكامَه، وأن يستمسكُ بتعاليمِه، وأن لا يَجْعَلَ إسلامَه مَعْرُوْضاً أمامَ قوارِعِ الفِتَنِ.. فالفِتَنُ خاطِفةِ، والقلوبُ إن لم يكن لها أساسٌ من التقوى تَتَقَلَّب. وفي القرآن تأكيدٌ على لزومِ أسبابِ الثباتِ حتى الممات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} بارك الله لي ولكم..
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون: إن شهادة التوحيدِ.. مِن أعظمِ العبادات التي يُكَفِّرُ اللهُ بها عن العبدِ الذنوب، فَمَن استقامَ عليها على نورٍ وبصيرةٍ.. أدركَ مِن الله الرضا، ونالَ أعظمَ مرغوب.
* وَمَنِ استهانَ بهذه الشهادةِ واسْتَخَفَّ بها، أو فرطَ في شروطها، أو جردها مِن مضامِينِها ومُقْتَضَياتِها، فَظَنَّ أنها كلمةٌ يقولُها المرءُ بلسانِه معتقداً لها بِقَلْبِه، فَيُغْنِيْهِ ذلك عن القيامِ بلوازمِها. مِن الانقيادِ لله والعبوديةِ له، والاستجابةِ لأمرِه والكفِّ عن نهيه. مَن ظَنَّ ذلك.. فقد أساءَ وضَلَّ سواءَ السبيل. * إن شهادةَ التوحيدِ.. تتحققُ بالقولِ باللسانِ، والاعتقادِ بالجَنانِ، والعملِ بالجوارح والأركان. وأن الإيمانَ اعتقادٌ وقولٌ وعمل.. يزيدُ بالطاعةِ وينقصُ بالمعصية.
* ومِنْ عقيدةِ أهلِ السنةِ والجماعةِ.. أن المسلمَ لا يـَخْرُجُ مِن دائرةِ الإسلامِ بارتكابِه لِكَبِيْرَةٍ من كبائرِ الذنوبِ ما لم يَسْتَحِلَّها، وأن صاحبَ الكبيرةِ معرضٌ للعقوبة والوعيد.. فإن شاءَ اللهُ عذبَه بعدلِه، وإن شاء تجاوزَ عنه برحمته وفضله.
ومٍن عقيدةِ أهل السنةِ والجماعةِ أن مَن أتى بناقضٍ من نواقضِ الإسلامِ فإنه يَكْفُرُ ويكونُ مُرْتداً، وإنْ نَطَقَ بِشاهدة التوحيدِ بلسانِه واعتقدها بقلبه. * وَمِن نواقضِ الإسلامِ التي ذكرها محمدُ بنُ عبدالوهابِ رحمه الله: (أن مَنْ لَمْ يُكَفِّرِ المشركين، أو شكَّ في كفرهم، أو صحح مذهبهم كَفَر) كمن يُصححُ مذهبَ اليهودِ والنصارى، ويقول إنهُ لا فرقَ بيننا وبينهم: هم ونحنُ نعبدُ رباً واحداً، أو يقول: نحن وهم على الملةِ الإبراهيمية، والله تعالى قد قال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
* ومِن نواقِضِ الإسلامِ.. التي ذكرها محمدُ بنُ عبدالوهاب رحمه الله: (أن مَن اعتقد أن هديَ غيرِ النبيِّ r أكملَ من هديه، أو أن حُكْمَ غيرِه أحسنَ من حُكْمِه، كالذين يُفَضِّلُوْنَ حُكْمَ الطواغيت على حكمه) * ومِن نواقِضِ الإسلامِ.. التي ذكرها محمدُ بنُ عبدالوهاب رحمه الله: (مَنْ استهزأَ بِشَيءٍ مِنْ دِيْنِ الرسول r أو ثوابه أو عقابه {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}
* ومِن نواقِضِ الإسلامِ.. التي ذكرها محمدُ بنُ عبدالوهاب رحمه الله: (مُظَاهَرَةُ المشركينَ ومُعَاوَنَتِهِم على المسلمين، قال الله تعالى : {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} * ونواقِضُ الإِسلامِ كُلُ قولٍ أو عملٍ أو اعتقادً، قام الدليلُ على كُفرِ صاحِبِه.
عباد الله: إنهُ لا كرامةَ توازي كرامةَ الهدايةِ للإسلام، ولا شقاوةَ تقارِبُ شقاوةَ الإعراضِ عنه {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}
فاستمسكوا رحمكمُ الله بإسلامِكم، وحققوا شهادةَ التوحيدِ في قلوبِكم، ولا تنقلبوا على أدبارِكم، وخذوا العقيدةَ مِنْ مشكاةِ الكتاب والسُّنَّة، وتعلموها وعلِّموها أولادكم، فإن المؤامرةَ على مَسْخِ التوحيدِ من قلوب المسلمين، من أعظمِ المكائدِ التي يسعى الأعداءُ لتحقيقها.
فاللهم فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّنا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِا مسلمينَ، وَأَلْحِقْنِا بِالصَّالِحِينَ..
المرفقات
1614545080_العروة الوثقى 3ــ5ــ1442هـ.doc