الرجوع إلى الحق | د. محمد العريفي

،

الرجوع إلى الحق

الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، وجعلنا من أهله ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه ، وأسأله المزيد من فضله وكرمه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أرسله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً . دعا إلى الحق ، وهدى إلى الخير ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .

أما بعد أيها الأحبة في الله :
كان العرب في الجاهلية قد تعودوا على أمور لا يَستطيعون عنها فكاكاً ، ولا يطيقون عنها تَحوُّلًا ، من عبادة للأصنام ، وظُلم وشهوات وغَيّ ، وكلما تَبيّن لأحدهم الحق ردَّه وقال : (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) فكان يمنعهم الكِبْرُ واتباع الهوى والاستعلاء على الناصحين عن قبول الحق ، حتى قال أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وَلَقَد عَلِمْتُ بأَنَّ ديِنَ محمدٍ مِن خيرِ أَدْيان البَرِيَّة دينَا
لوْلا المَلامةُ أَو حِذارُ مَسَبَّةٍ لوَجَدْتَنِي سمْحاً بذاكَ مُبينَا
ومع ذلك مات كافراً راداً للحق .
فكان من ردّ الحق منهم يرى أن له فَضْلاً على مَنْ اتبعه وما درى أنه من حَصَب جهنم هو لها وارد .

أيها الأخوة المؤمنون :
وممن كان للحق والباطل في قلبه صَوْلَة وجولة عمرو بن الجموح رضي الله عنه ، وكان له صنم يُدعى " مَنَاة " اتخذه من نَفيس الخشب وكان شديد الإسراف في تقديسه وتضميخه بالطيب والعنبر ونَفائس الزَّعفران .
وكانت هذه عادته مُذ عرف الدنيا ، حتى جاوز عمره الستين سنة فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وأرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه داعيةً ومُعلّماً لأهل المدينة ، فأسلم على يديه ثلاثة أولاد لعمرو بن الجموح مع أمهم دون أن يعلم .
فعمدوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر هذا الداعي المُعلِّم وقرؤوا عليه القرآن ، وقالوا : يا أبانا قد اتبعه الناس فما ترى في اتباعه ؟ فقال : لستُ أفعل حتى أشاور مَنَاة فأَنظُرَ ما يقول !! ثم قام عمرو بن الجموح إلى مَنَاة ، وكانوا إذا أرادوا أن يكلموا أصنامهم جعلوا خلف الصنم عجوزاً تجيبهم بما يُلهمها الصنم في زعمهم .
قام عمرو أمام مَنَاة واعتمد على رجله الصحيحة إذ كانت الأخرى عرجاء ثم حمد الصنم وأثنى عليه ثم قال : يا مَنَاة لا ريب أنك قد علمت بخبر هذا القادم ولا يريد أحداً بسُوءٍ غيرك وإنما ينهانا عن عبادتك ، فأشِرْ عليّ يا مناة ، فلم يردَّ الصنم شيئاً ، فأعاد عليه فلم يُجب ..
فقال عمرو : لعلك غضبتَ وإني ساكتٌ عنك أياماً حتى يزول غضبُكَ ، فلما أمسوا جاء أبناؤه الثلاثة إلى مَنَاة وحملوه ثم ألقوه في حُفْرة ٍفيها أقذار وجِيَف ، فلما أصبح عمرو دخل إلى صنمه لتحيته فلم يَجده ، فصاح بأعلى صوته : ويلكم !! َمْن عَدا على إلهنا الليلة ، فسكتَ أهلُه ، فأخذ يبحث عنه حتى وجدَه مُنَكَّساً على رأسه في الحُفْرة فأخرجه وطيَّبهُ وأعاده لمكانه ، وقال له : أما والله لو علمتُ مَنْ فَعَل هذا لأخْزيتُهُ ..
فلما كانت الليلة الثانية فعل أبناؤه به ما فعلوه فيما سبق ، فلما أصبح الشيخ التمسه حتى وجده فغسله وطيّبه وهَدَّد وتَوَّعد ، ثم ما زال الفِتْية يفعلون ذلك بالصنم كل ليلة وهو يخرجه كل صباح فلما ضَاق بالأمر ذرعاً راح إليه قبل منامه وقال : ويَحك يا مَنَاة إن العنز لتمنع أُسْتَها ..
ثم علّق في رأس الصنم سيفاً وقال : ادفع عَدُوّك عن نفسك ..
فلما جَنَّ الليلُ حمل الفِتْيةُ الصنم وربطوه بكلب ميت وألقوه في بئر يجتمع فيها النَتَن ، فلما أصبح الشيخ بحث عن مَنَاة فلما رآه على هذا الحال في البئر قال :
وَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهاً لَمْ تَكُنْ أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قرنْ
أُفٍّ لِمَثْوَاكَ إِلَهـــــاً مُسْتَدَنْ فَالآنَ فَتَّشْنَاكَ عَنْ شَرِّ الغبنْ

وقيل :
أَرَبٌّ يَبولُ الثُّعْلُبانُ بَرأسهِ لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بالَتْ عَلَيْهِ الثَّعالبُ
فلو كانَ رباً كان يَمنعُ نَفْسَهُ فلا خَيرَ في رَبٍّ نأته المطَالِبُ

ثم دخل في دين الله ومات شهيداً في معركة أحد .

أيها الأحبة في الله :
إن الرجوع إلى الحق أمر لا تتَحمله أكثر النفوس ، يمنعهم من ذلك الكِبْر وحبُّ الصدارة والاستـئـثار ، خاصةً في الزمن الذي أوصى فيه صلى الله عليه وسلم صاحبه بقوله : " إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ عنك أمر العامة " . رواه الترمذي .
ومن تأمل في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبيب الكريم ، الذي ينزل عليه الوحي ، المسدد من فوق سبع سموات ، يجد أنه كان يُربي أصحابه على الرجوع إلى الحق ، بل كان يرجع إليه دون تردد .
ففي معركة بدر وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى موقع القتال قبل المشركين فأمرهم بالنزول دون البئر فيكون بئر بدر ببينهم وبين المشركين ..
فجاءه الحباب بن المنذر رضي الله عنه وقال يا رسول الله : (أرأيت هذا المنزل : أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب و المكيدة ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : "بل هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ " ..
فقال الحباب : يا رسول الله فليس هذا بمنزل ولكن نتقدم على البئر فإذا بدأ القتال نشرب ولا يشربون ..
فقال صلى الله عليه وسلم : أشرت بالرأي ، ثم نهض سريعاً وأمر بتحويل الرحال . ) رواه ابن اسحاق .
فانظر إلى أكمل البشر معرفةً ، وأرفعهم مكانة ، يتبين له صوابُ غيرِه فيرجع إليه ، ولعل الله أجرى ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يستكبر مسلم بعده عن الرجوع إلى الحق متى ظهر له ..
بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من حلَف على شيء فتبين له أن الخير في غير ما حلف عليه أن يعود إلى الخير ويُكَفّر عن يمينه ، فقال صلى الله عليه وسلم :" وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " متفق عليه .

أيها الأخوة المؤمنون :
ومن تأمل في حال الناس اليوم وجد أن أكثرهم لا يمنعهم من العمل بالحق الجهلُ به أو عدمُ القدرة عليه .. وإنما التكبر عنه والغرور بما أنعم الله عليه من مال أو منصب أو قبيلة ..
ومن منعه ماله عن قبول الحق فهو شبيه بقارون الذي آتاه الله أموالاً عظيمة صار له بها وجاهةٌ عند قومه فقال له الناصحون : ( لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) فلما رد الحق وتكبر عن قبوله قال الله : (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ) .
ومن منعه منصبه ووجاهته عن قبول الحق فهو شبيه بفرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى وقال : (يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) .
ثم كان من حاله ما أخبرنا الله تعالى به من إغراقه في اليم ، وهو في الآخرة (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) .
نعوذ بالله من مثل هذه الأحوال ..
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا رجاعين إلى الحق عاملين به ..
بارك اللهم لنا في القرآن العظيم ، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحليم ، وارزقنااللهم السير على هدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم . آمين يا رب العالمين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .



الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه .

أما بعد :
إن الذي نشكوا منه اليوم ليس هو جَهْل الناس أو عدمُ وضوح الحق لهم .. كلا .. بل الحق واضح ظاهر .. ولكن مع ذلك لا يزال أقوام يقدمون أهواء أنفسهم على مراد الله ورسوله ..
وهذا هو حال اليهود الذين قال الله فيهم (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ..
وقال عز وجلَّ (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ )..
وبعض الناس يتعالم ويردّ الحق ويزعم أنه على علم .. وهذا حال المكذبين الذين قال الله فيهم : (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ..
ونحن الآن نعيش في مجتمع أهله مسلمون آباء عن أجداد ، ومع ذلك تجد أنك تطلب من بعضهم أن يرجع إلى الحق فيحافظ على الصلاة أو يطّهر ماله من المحرمات ، أو يترك السماع المحرم ، أو النظر المحرم ، ومع ذلك يقابلك المنصوح أحياناً كثيرة بالإعراض وعدم القبول . .. لماذا ؟
من أعظم أسباب ذلك : احتقار المعصية التي هو عليها فلا يرى أنه على باطل كبير يستحق الرجوع منه إلى الحق ، وإن الذنب كلما صَغُر عندك كَبُر عند الله ، روى الإمام أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ " .
وعند البخاري ومسلم أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان راجعاً من بعض غزواته ، فقام غلام له صلى الله عليه وسلم فحمل رَحْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدابة ، فما كاد هذا الرحل يستقر على الدابة حتى أُطلق سهم على الغلام فمات من ساعته ، فكبر المسلمون وقالوا : الله أكبر هنيئاً له الجنة هنيئاً له الشهادة ، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك - وهو الذي ينبأ من الوحي بما لا ينبئون - قال لهم : " كلا !! إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي غَلَّهَا – يعني الرداء الذي سرقه من الغنيمة قبل أن تقسم - لتلتهب عليه في قبره ناراً " نعوذ بالله من النار .
ألا فلينظر كل امرئ في نفسه وليتأمل في عمله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) .
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين وأذلّ الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين .
ثم صلوا أيها المسلمون على عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) . اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض الله عن أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .



خطب سابقة
مكانة العلماء في الأمة
الثبات على الدين

المشاهدات 2183 | التعليقات 0