الحيــــاء 20/12/1442هـ

محمد آل مداوي
1442/12/19 - 2021/07/29 13:39PM

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عبادَ الله حقَّ التقوى، واستمسِكُوا من الإسلامِ بالعُروةِ الوثقى.

أيها المسلمون: مِفْتَاحُ العُبوديَّةِ لله وسِرُّها في العلمِ بأسماءِ اللهِ وصِفَاتِه، فأسماؤهُ حُسنى وصفاتُه عُليا، ومِنْ أسماءِ الله: الحَيِيّ، ومِنْ صفاتِه: الحياء، وقد وَصَفَ اللهُ نفسَهُ بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا).

ويستحيي سبحانه أن يَرُدَّ مَنْ طلَبَهُ شيئا، قال r: "إنَّ رَبَّكُمْ تَبارَكَ وتعالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَستَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إذا رَفَعَ يَدَيْهِ إليهِ، أنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا" رواه أبو داود.

قال ابنُ القيمِ رحمه الله: "ورأسُ مكَارِمِ الأخلاقِ في الخَلْقِ وأجلُّها وأعظمُها قَدْرًا وأكثرُها نفعًا: الحياء ... وعلى حَسَبِ حيَاةِ القَلبِ يكونُ الحياءُ فيه، وكُلَّما كانَ القلبُ أَحْيَا كانَ الحياءُ فيهِ أَتَمَّ وأقوى".

وبالحياءِ اتَّصَفَ خِيارُ الخَلْق، وأثنى اللهُ على أهلِه؛ فالملائكةُ مَوصُوفونَ به، قال عليه الصلاة والسلام في عثمان t: "ألَا أستَحِي مِنْ رَجُلٍ تَستَحِي مِنهُ الملائكةُ؟" رواه مسلم.

ونبيُّنا محمدٌ r له مِنْ ذلكَ النصيبُ الأوفَر، فحيَاؤهُ يُعرَفُ في وجهِه، قال أبو سعيدٍ الخدري t: "كانَ رَسُولُ اللَّهِ r أشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ في خِدْرِهَا، وكانَ إذا كَرِهَ شَيئًا عَرَفْنَاهُ في وَجْهِهِ" متفق عليه.

وتَردَّدَ النبيُّ r ليلةَ المِعْرَاجِ بين موسى -عليه السلام- وربَّهُ يَسْأَلُه التخفيفَ في الصلاةِ حتى قال: "قد اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي" متفق عليه.

وعائشةُ أمُّ المؤمنين -رضي الله عنها- بلَغَ بها الحياءُ أنْ تحتَشِمَ في حُجْرَتِهَا حيَاءً مِنْ عُمَرَ t بعدَ دَفنِه، قالت رضي الله عنها: "كنتُ أدخلُ بيتي الذي دُفِنَ فيه رسولُ الله r وأبي، فأضَعُ ثوبي فأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفِنَ عمرُ معهما فواللهِ ما دخلتُ إلاَّ وأنا مشدودةٌ عليَّ ثيابي حياءً مِن عمر" رواه أحمد.

بالحياء نَيْلُ السَّعادةِ وإدراكُ أسبَابِها، وهو خيرٌ كله، قال عليه الصلاة والسلام: "الحياءُ خَيرٌ كُلُّهُ، أو قال: الحياءُ كُلُّهُ خَيرٌ" رواه مسلم.

وما عاقَبَ اللهُ قلبًا بأشدَّ مِنْ أَنْ يَسْلِبَ منهُ الحياء، قال ابنُ عمر رضي الله عنهما: "إنَّ الحياءَ والإيمانَ قُرِنَا جميعا، فإذا رُفِعَ أحدُهما رُفِعَ الآخر".

ومِنْ ثمارِ الحياءِ وحُسنِ جَزائه: حياءُ اللهِ مِنْ أهلِه، قال r: "وأمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ" متفق عليه.

ورأسُ الحياءِ ما كانَ حياءً مِنَ الله؛ لئلا يراكَ حيثُ نهاكَ ولا يَفْتَقِدَكَ حيثُ أمرَك؛ فاللهُ أحقُّ أنْ يُستحيا منه، قال عليه الصلاة والسلام: "اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ" رواه الترمذي.

ومعَ الإنسانِ ملائكةٌ لا تُفارِقُه، ومِنْ إكرامِهم: الحياءُ مِنهُم، قالَ سبحانه: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).

ومَنْ لا يستحيي مِنَ الناسِ لا يستحيي مِنَ الله، ومَنْ جالَسَ أهلَ الحياءِ تجدَّد حياؤه، وأولى مَنْ يُكرِمُ المرءُ نَفْسَهُ، ومَنْ لم يستحي مِنَ اللهِ فمَا عَرَفَ ربَّه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أما بعدُ أيها المسلمون: الحياءُ الممدُوحُ شَرعًا هو الخُلُقُ الذي يَحْمِلُ على فِعْلِ الجَميلِ وتَرْكِ القبيح، أمَّا الضَّعْفُ والعَجْزُ الذي يُوجِبُ التقصيرَ في شيءٍ مِنْ حُقوقِ اللهِ أو حُقوقِ عِبَادِهِ؛ فليسَ مِنَ الحياءِ في شيء، وإذا مَنَعَ صاحِبَهُ مِنْ خَيرٍ لم يكُنْ ممدوحًا، قالت عائشةُ رضي الله عنها: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لم يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الحيَاءُ أَنْ يَسْأَلْنَ عَنِ الدِّينِ وَيَتَفَقَّهْنَ فيه" رواه مسلم.

فَلَا وَاللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ ** وَلَا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ

يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ ** وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

فاتقوا الله عباد الله، ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا).

اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.


اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأَذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين،

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحب وترضَى، وأعنه وولي عهده على البر والتقوى، وارزُقهم البطانَة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام،

اللهم ووفق جميع ولاة أمور المسلمين لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اُنْصُر جنودَنا المرابطينَ على حُدودِ بلادنا، اللهم اِربط على قلوبـهم، وثَبِّتْ أقدامَهم، وانصُرهم على القوم الظَّالمينَ واخْلُفْهُم في أَهْلِيهِم بِخَيرٍ يا رب العالمين.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم إنا نسألك الهدى والتُقى والعفّاف والغِنى، يا رب العالمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدْكُم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

1627565964_خطبة 20-12-1442 الحياء.docx

1677813285_فلظن بي ما شاء.docx

1677813286_فلظن بي ما شاء.pdf

المشاهدات 1068 | التعليقات 0